عن الثورات التي ستحرِّرنا من إيران
ما أن يُحذِّر أحدنا من قدرة الولايات المتحدة على حرف أيّ حراكٍ شعبي يفتقد للقيادة وللتنظيم وإعادة توجيهه بما يُناسِب مصالحها حتى نُتَّهم بتبنّي نظرية المؤامرة.
"الصِراع من أجل الحرية مستمر. نحن نرى ذلك في شوارع بيروت وبغداد، حيث تتظاهر الشعوب ضد إيران وحزب الله".
هكذا وصَفَ وزير الخارجية الأميركي مايكل بومبيو موجتيّ الاحتجاج اللتين تشهدهما الساحتان اللبنانية والعراقية، وذلك في كلمةٍ له من ألمانيا في الثامن من الشهر الجاري في ذكرى مرور ثلاثين عاماً على سقوط جدار برلين، وقبل انتقال عدوى التظاهُرات إلى الداخل الإيراني.
تصريحات وزير الخارجية الأميركي تأتي فيما تمرّ منطقتنا العربية بمنعطفٍ تاريخي يتمّ خلاله من جديد طرح قضية العلاقة مع نظام الثورة الإيرانية على العقل العربي وبإلحاحٍ شديد، وذلك عبر ضخٍّ إعلاميٍ مُكثّفٍ تقوم به الآلة الإعلامية المموَّلة بالبترودولار الخليجي تحت عناوين مُحذِّرة من خطر (المشروع الإيراني).
صحيح أن الدعاية المُعادية لإيران لم تتوقّف يوماً منذ سقوط نظام الشاه عام 1979، لكنها تبلغ اليوم ذروة لم تبلغها من قبل، وذلك توازياً مع نجاح استراتيجية نشر الصواريخ الدقيقة التي تهدِّد أمن الكيان الصهيوني في خمسة بلدانٍ عربية بالإضافة إلى إيران، ليكون تهديد السيّد عبد الملك الحوثي في 9 تشرين الثاني/نوفمبر 2019 بقصف أهدافٍ إسرائيليةٍ حسّاسة، الإعلان الرسمي عن دخول اليمن كجبهةٍ جديدةٍ، يمكن أن تنطلق منها الصواريخ والمُسيَّرات في لحظة اندلاع المواجهة الشاملة بين محور المقاومة والكيان الصهيوني.
في هذه الأثناء وبينما يتحدَّث وزير الخارجية الأميركي باسم الحراكَين الشعبيين في العراق ولبنان، يتجدَّد النقاش العَبَثي الذي سال حوله الكثير من الحبر في العالم العربي حول جدليّة (ثورة أمْ مؤامرة)، فما أن يُحذِّر أحدنا من قدرة الولايات المتحدة على السيطرة على أيّ حراكٍ شعبي يفتقد للقيادة وللتنظيم الثوري، ومن ثم حَرْفِه عن أهدافه وإعادة توجيهه بما يُناسِب مصالح واشنطن، حتى نُتَّهم بتبنّي نظرية المؤامرة، بينما يشير ما يتوافر بين أيدينا اليوم من وثائق رسمية ومن تصريحاتٍ أميركيةٍ تتحدَّث بإسهابٍ عن تمويل وزارة الخارجية الأميركية للناشطين الثوريين، إلى أننا تجاوزنا مرحلة المؤامرة إلى مرحلة استحمار الشعوب وامتطاء مُعاناتها من أجل سَوْقِها إلى الضدّ تماماً من مصالحها.
وكمثالٍ يُساعدنا على تصوّر مدى استخفاف المسؤولين عن إدارة البروباغندا الأميركية، بعقول الثوّار الجُدُد في منطقتنا، أصدر موقع the Hill الأميركي المُهتَّم بنشر دراساتٍ استراتيجيةٍ عن منطقتنا، تقريراً تمّ توجيه الجزء الأول منه على ما يبدو إلى الناشطين الثوريين الإيرانيين المُعارضين، حيث يشرح هذا الجزء بالتفصيل كيف يُنفِق النظام أموال الإيرانيين على الحركات المُعادية لـ"إسرائيل" وللوجود الأميركي في منطقتنا، وكيف يجلب ذلك السلوك الغَضَب الغربي وبالتالي الحِصار والويلات على الشعب الإيراني.
إلا أن الجزء الثاني من التقرير مُتناقِضٌ في فحواه، وهو موجَّه كما يظهر للإعلاميين العرب وللناشطين الثوريين في الساحتين العراقية واللبنانية، حيث يشرح هذا الجزء كيف تقوم إيران بِنَهْبِ كلٍ من العراق ولبنان من أجل الإنفاق على حزب الله والحشد الشعبي العراقي وعلى حركات حماس والجهاد الإسلامي الفلسطينيتين وأنصار الله اليمنية.
طبعاً ما كان بإمكان الدعاية الإعلامية الأميركية أن تمارس الترويج لرسالتين إعلاميتين مُتناقضتين موجّهتين إلى شعوب منطقتنا، لولا اطمئنانها الكامل لاحتكار حلفائها من حُكَّام المشيخات الخليجية لمُعظم وسائل الإعلام المُتحكِّمة بالوعي السياسي العربي.
في الواقع لم تبتدع إيران مبدأ دعم الأحرار وحركات المقاومة، بل إن رئيساً (ثورياً) عربياً هو جمال عبدالناصر كان السبَّاق لانتهاج هذه السياسة في منطقتنا، إذ يكتشف الدارِس لتاريخ العلاقات الإيرانية العربية مُفارَقة مُثيرة في هذا السياق، فبالإضافة إلى دعم مصر الناصرية لثورات الجزائر واليمن وليبيا وفلسطين، قليلون يعرفون أن أول مبلغ قبضه الإمام الخميني كمساعدةٍ من رئيسٍ أجنبي خلال مرحلة نضاله الثوري الطويلة ضد نظام الشاه المُتحالِف مع "إسرائيل"، كان مبلغ (150) ألف دولار قبضها من جمال عبدالناصر في الستينات، تلك الحقيقة أقرَّ بها الخميني بنفسه لمحمّد حسنين هيكل الذي وثّقها في كتابه "مدافع آية الله".
ويقول هيكل إن الاستخبارات الإيرانية "السافاك" توصّلت يومها إلى الحصول على صورةٍ للشيك الذي قدَّمه ناصر للإمام الخميني، فوقف الشاه مُخاطِباً الشعب الإيراني وبيده صورة الشيك وقال "إن الخميني يقبض من عبدالناصر كي يستولي على الحُكم في إيران، وليُعطي نفطكم للعرب".
لذلك ليس غريباً أن يتردَّد فحوى الكلام الذي ورد في خطاب الشاه عام 1965 على ألسنة مُتظاهري ما سُمّي بـ "الثورة الخضراء" في طهران وأصفهان وشيراز عام 2009 وهي الحركة التي اعترفت هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأميركية السابقة في مُذكّراتها أنها وقفت وراءها من خلال إشرافها الشخصي على تدريب أكثر من 4000 ناشط إيراني، حيث رفع هؤلاء يومها شعار (لا تعطوا مالنا لغزَّة ولبنان) وهو ذات الشعار الذي ردَّده منذ أيام المُتظاهرون في الاحتجاجات الأخيرة في إيران.
فبينما تستخدم الولايات المتحدة أساليب الحرب الناعِمة لبناء تيار شعبي في الداخل الإيراني لمُعارَضة الدعم الذي تُقدِّمه طهران للحركات التي تقاوِم الهيمنة الأميركية والوجود الصهيوني في المنطقة العربية، تحت ذريعة أن هذا الدعم تبديد للمال الإيراني، وأنه السبب الرئيس في غَضَب العالم الحر (أميركا وأتباعها) على طهران، تستخدم واشنطن نفس الأساليب للتحذير من خطر المشروع الإيراني، الذي مدّ نفوذه بحسب الدعاية الأميركية إلى خمس دولٍ عربية، من خلال الدعم الذي قدَّمته إيران للحركات والجيوش العربية التي تصدَّت للعدوانين الصهيوني والتكفيري في كلٍ من لبنان والعراق وسوريا وغزَّة واليمن، وكأن قضية العداء لـ"إسرائيل" قضية إيرانية بالأساس وليست قضيةً عربية!! وكأن جيوش الإرهابيين المدعومة بمال قطر والسعودية لم تكن تستهدف حاضِر العرب ومستقبلهم بالدمار!!