لم يتحمَّل أحدٌ كما أهلُ غزّة!

ماذا يعني أن يموت خمسة أطفالٍ رضِعوا من أمٍ واحدة، دُفعةً واحدة، كيف تتحمّل الإنسانية هذا العبء من الخروقات التي تهدّد وجودها، ووجودنا؟ ما هذا البلاء الذي وقع على عائلة السواركة؟ ماذا اقترف هؤلاء الأطفال؟ وماذا سيحلُّ بهذه العائلة المنكوبة التي أبَت مصائبُها أنْ تأتي فُرادى!

هل سمِعتُم يوماً ما بـ "الموتِ المُقفّى"؟ الموت الذي يُشبهُ الشعرَ بتوازنه؟ في الشعر، البيوت جميعها على القافية نفسها، وفي الموتِ، الفقد كلُّه من البيت نفسه، موتٌ من نُطفةٍ واحدةٍ، من عائلةٍ واحدة، يبدأ بالصغار، بالأطفال، ثمّ بالكبار، لكنّ الموت ليس شعراً يُنسى، بل فقدٌ حقيقيٌ يقهرُ ويجرحُ ويُدمي، يحصل هذا منذ أعوامٍ في فلسطين الحبيبة، منذ يومين نزفت الدماء هناك بكثرة، استُشهدت عائلةٌ برمتها، خمسةُ أطفالٍ كانوا يمارسون جرم النوم، فقرر الاحتلال تصفيتهم أخاً تلو الآخر!
استيقظ أهلُ غزة الخميس على وقعِ قصفٍ عشوائي، ركضوا بعد انتهائه لتفقُّد من بَقِي منهم، هكذا هم، يُعدّون أنفسهم بعد كل طائرةٍ يحلو لها أن تزور سماءهم، وجدوا 4 حفر عميقة في الأرض، ومنزلاً يحوي عائلتين مدمّراً تماماً كأنّ حجارته هُدّت من كثرة ما ضربتها النيران، بأيديهم نبشوا الرمال، لعل الموت استثنى أحداً من الصغار رأفةً بطفولته، وجدوهم نائمين، لم يعكّر الموت صفوَ أحلامهم، ثمانيةُ شهداء من عائلة واحدة، بينهم خمسةُ أطفال وسيدتان، وإلى جانب الشهداء الثمانية، أُصيب 12 من أفراد العائلة بجراج أهونها الجراح الجسدية، طواقم الإسعاف قضت ساعاتٍ لانتشال الجرحى، بينهم رضيعة عمرها 35 يوماً وُجدت في حضن شقيقها الذي استُشهد تحت رُكام المنزل.
داخل ثلاجة الأموات في مستشفى شهداء الأقصى كانت تفوح رائحةُ الموت، أفراد العائلة اجتمعوا على سرير واحد، مضرّجين بدمائهم، هادئين، عيونهم مغلقة، لم تشاهد ماذا حلّ بهم في الليل الأسود. رأى العالم هذه الصورة التي تخدش حُرمة العين لقسوتها، تناولتها وسائل التواصل الاجتماعي، حزِنَ أفراد، وبكت أمهات، واستنكر طلاب، لكنّ الحزن كان فردياً، حزنٌ فقير، لا يناسب حجم الوجع، وكأنّ هذه العائلة غير منتميةٍ لوطن، لا يوجد من يصرخُ عنها، أو يأخذ بثأرِها، الأمين العام للأمم المتحدة أمر بـ "التحرك العاجل لإجراء تحقيق"، وهو يعرفُ القاتل، نعرفهُ جميعاً، هو نفسه الذي قال إن القصف "وقع بالخطأ"، والخطأُ في فلَسطين المحتلة يومي ويحدثُ منذ أكثر من واحدٍ وسبعين عاماً.
في التاريخ، يقال إن عائلة السواركة قبيلة عربية بدوية، وهي أكبر قبيلة في شبه جزيرة سيناء، ويبلغُ عدد أفرادها نحو 700 ألف فرد، وهناك من يقول إن عدد أفرادها تجاوز المليون، ويقطنُ أفراد هذه العائلة في مدن وقرى شمال سَيناء، وترجع أصولهم إلى "السويركية" في المدينة المنورة بالحجاز وتنتشر عشائر السواركة أيضاً في صحراء النقب، وغزة، والضفة الغربية، وسواحل البحر المتوسط، والأردن. لكننا لم نسمع استنكاراتٍ من أيّ أحد، لم تعلن البلادُ حداداً عاماً، لم تُقفل الإدارات العامة والمدارس، لم نرَ مظاهراتٍ تجوبُ البلاد العربية استنكاراً وتنديداً وتضامناً!
منذ فجر التاريخ كانت كلُ مآسي الإنسان تتأتى من الإنسان الآخَر، هذه الطينة التي تقاتل نفسها في صراع الخير والشر الأبدي المتوارَث، صراع الأبيض والأسود، المظلوم والظالم، صراع شعبين يتقاتلان، شعبُ الأرض، وشعب الاغتصاب، توارثت الأجيال قضية عن أختها حتى حطت القضية الأم رحالها في الأرض المقدّسة، فلسطين. لم تكن القضية الفلسطينية يوماً قضيةً حزبية، إنها على الدوام قضية شعب لذلك تقتل "إسرائيل" الطفل الفِلسطينيّ أولاً، تقتل الإنسانَ أياً يكن انتماؤه، تُريق الدم الفلسطيني ليس على جبهات القتال، لأن القتال على الجبهة يُعدّ منطقياً بالنسبة للشعوب، أما المغتصبون، فيكون قتالهم بين جدران البيوت، بين العائلات، هكذا تقتل "إسرائيل" عائلة من 5 أفراد، 5 أشجار مثمرة، 5 قبائل ستُنجبُ الحرية حتى ولو غيّبوها!.