من يمنع عودة لبنان إلى محيطه يقف وراء الأزمة

نحن اليوم أمام مرحلة مفصلية جديدة من حياة لبنان، ومن يقف خلف التحرّكات الشعبية ويستثمرها يريد كبح انضمام لبنان إلى محيطه، ويريد إبقاءه تحت سيطرتها المتوارثة من الطائف، والمزخمة بأحداث 2005، ومحاولةً حصار المقاومة بالدولار.

صورة من التظاهرات في لبنان

يمر لبنان بمنعطف أشبه بمنعطفاته الكبرى، التي كانت غالباً انعكاساً للتوازنات الاقليمية والدولية في كل مرحلة من مراحل حياته.

أعلن الفرنسيون إنشاء الكيان اللبناني سنة 1943 تكريساً لتقسيمات سايكس-بيكو التي نجمت عن انتصار الحلفاء (فرنسا وبريطانيا) الكاسح في الحرب العالمية الأولى، وتكريس ذلك الانتصار في الحرب العالمية الثانية.

عام 1958، اهتزّ لبنان تحت وطأة الصراعات الاقليمية والدولية، وأعيد صوغه وفق توازن القوى الذي رسى في تلك الحقبة بين الغرب الاستعماري الذي آل إلى يد الولايات المتحدة الأميركية، وتفاقم الحرب الباردة التي شهدها النصف الثاني من القرن العشرين.

وانهارت التجربة اللبنانية وفق صيغة 1943 تحت وطأة التطوّرات اللاحقة، ابتداء من نكسة 1967، مروراً بإرهاصات الحرب الأهلية بلوغاً العام 1975، وما بعدها من صراعات بين محاور الحرب الباردة، وتحالفات قواها، مروراً بالاجتياح الصهيوني للبنان 1982، ومحاولات تكريس سلطات له بأشكال مختلفة لم يُكتَب لها النجاح، وصولاً إلى اتفاق الطائف الذي تزامن مع تقدّم محور التحالف الأميركي على المحور الشرقي بقيادة الاتحاد السوفياتي عند بلوغه مرحلة الضعف والوَهن وصولاً لانهياره عام 1990.

وفي معاينة لمراحل التحوّلات اللبنانية، أمكننا فَهْم معاني الحال التي يمر لبنان بها اليوم، إن على مستوى معاني أزمته الاقتصادية، أم على مستوى أبعاد التحرّكات الشعبية المُندلِعة فيه منذ نحو أسبوعين.

اهتزاز 1958 وما بعده

بعد نشأته 1943، شهد لبنان أولى الهزّات الكبرى في العام 1958 في حركة شعبية عرفت ب"الثورة"، وكان ذلك في ظل تصاعد الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها الدوليين والإقلميين من جهة، والاتحاد السوفياتي وحلفائه، من جهة ثانية، وبعد أن بدأ الكيان الصهيوني يلعب الدور الذي أنيط به في إضعاف القوّة العربية إثر تشكّل دولته بعد نكبة فلسطين على أيدي البريطانيين عام 1948، فكانت أولى الحروب حرب "السويس" 1956.

فشل حرب السويس بمقاومة مصرية قوية بقيادة الرئيس المصري جمال عبد الناصر، دفع الغرب الامبريالي إلى تشكيل حلف بغداد لمواجهة الحال الناصرية المتصاعدة، والتي حشدت وحرّكت الساحات العربية، مُنادية بالوحدة.

تعاطف لبنان الرسمي مع حلف بغداد، وانقسم لبنان بين مُتعاطِف مع الناصرية، وبين موقف دولته الرسمي من حلف بغداد، فوقعت أحداث 1958.

بعد انتهاء التوتر بين عبد الناصر والحلف الغربي، كان مفترضاً إعادة إحياء الصيغة اللبنانية، فكانت الخيمة التي جمعت الرئيسين، المصري جمال عبدالناصر، واللبناني فؤاد شهاب، وتمّت فيها التسوية اللبنانية، انعكاساً للتسوية الاقليمية، واتفق على إعادة تكريس الكيان اللبناني وفق صيغة 1943، دستوراً وكياناً.

وبعد هدوء نسبي حتى العام 1967، وقعت النكسة بين الدول العربية، والكيان الإسرائيلي،

وتهجّر المزيد من الفلسطينيين إلى لبنان بالقوّة، ودخل كيان 1943 مرحلة الصراع الاقليمي المتعدّد الصيغ، وظلت حاله تتأرجح بين حال من الهدوء المؤقت، والأحداث المتكرّرة إلى أن انفجرت الحرب الأهلية عام 1975، لتفتح باب الحروب اللبنانية على المستويات، الأمنية غالباً، والاقتصادية حيناً آخر.

تآكلت صيغة 1943 تحت وطأة الحروب الأهلية، وصولاً إلى العام 1989، وعبوراً للعديد من محطات الصراع الكبرى التي كانت الدولة فيها مجرّد سلطة لتسيير أمور الناس، فكان عام 1989 عام الانقلاب اللبناني تعبيراً عن انقلاب المعايير الاقليمية والدولية: أصاب الوَهن الاتحاد السوفياتي، وما لبث أن سقط كواحدة من أكبر الدول العالمية، وتفاقم الضغط الأميركي بهدف تعميم نظام "الليبرالية الاقتصادية"، ولم تعد صيغة 1943 متناسبة مع مرحلة السيطرة التامة للولايات المتحدة الأميركية،  فكان اتفاق الطائف.

بين الطائف واليوم

تتّصف مرحلة "الطائف" في بداياتها بأزمة اقتصادية، حيث بدأت بسقوط الليرة اللبنانية، وصعود الدولار الأميركي، وبوقوع الدولة في عجز مالي كبير. ومرت مرحلة الطائف بمحطات كبرى، شهدت أحداثاً وتطورات دراماتيكية، منها حرب تحرير لبنان من الوجود الإسرائيلي 2000، واغتيال رئيس الحكومة اللبنانية رفيق الحريري 2005، وحرب تموز 2006، وما تلاها من صراعات وتجاذبات سياسية وأمنية واقتصادية، أنهكت الكيان، ودولته، وصولاً لاندلاع أحداث العالم العربي، خصوصاً منها الحرب السورية 2011، وانعكاسها على لبنان.

كان على العالم أن يضع لبنان في الثلاجة ريثما تتضح صورة خارطة الاقليم عسكرياً واستراتيجياً، ولم يكن بالحسبان صمود الدولة السورية بدعم من حلفائها، وهزيمة الخصوم عبر هزيمة حشود مئات آلاف المسلحين المُتدّفقين من أصقاع الأرض إلى الساحة السورية مدعومين من حلف الدول الغربية-العربية بقيادة الولايات المتحدة الأميركية.

وتبدأ التطوّرات اللبنانية الحالية، وتتباين تفاسيرها ومعانيها، لكن مَن يشارك في المعركة العسكرية مباشرة، وحده يقرأها بدقّة في السياسة. ومن هنا يأتي كلام سيّد المقاومة حسن نصرالله ليقول للجميع أن تغيير السلطات في لبنان لا يقدّم ولا يؤخّر، لأنه بمعرفته بتطوّرات المعركة الكبرى، وبإدراكه لأبعادها الاستراتيجية، لم يكن ليقع كغيره بوَهْم أن التحرّك هو محلي، وناجم عن تطوّرات داخلية لبنانية، وليعرف أن الحل اللبناني في مرحلة مفصلية كالتي نمرّ بها، ما هو إلا انعكاس لتطوّرات الصراعات الاقليمية والدولية، تماماً كما في مراحل التاريخ المختلفة، 1914 وانتصار الحلفاء فسايكس-بيكو،  إعلان صيغة 1943 وتكريس ذلك الانتصار، أحداث 1958 وانعكاس صراعات الاقليم على لبنان، واتفاق الطائف على عتبة سقوط الاتحاد السوفياتي، وهيمنة الولايات المتحدة الأميركية على العالم.

اليوم تشرف الحرب السورية على نهايتها، ويعلن الرئيس الأميركي نهاية الصورة الهوليوودية المفترضة ل"أبو بكر البغدادي"، كأنه يقرّ بهزيمة مسلحيه الذين حاربوا ودمّروا سوريا، ويجري التحضير لانعقاد مؤتمر جنيف بين الأمم المتحدة واللجنة الدستورية السورية للبدء بوضع أسس الحل السوري، وهو حل بأبعادٍ إقليمية.

في هذه الصورة، وببصيرةٍ غير مستغربة، أراد السيّد نصرالله وضع لبنان على سكّة الحل. فرضت الولايات المتحدة الأميركية سياساتها في مختلف أصقاع الأرض يوم كانت منتصرة، ومنه في لبنان الطائف، واليوم سيرسم لبنان من جديد، ويوضع على طريق الحل على يد المنتصر، أي حلف المقاومة (سوريا-إيران- المقاومة)، ومَن يقف إلى جانبها خصوصاً روسيا والصين، أما دول الغرب، فلن يكون دورها محدداً لآفاق الحلول، وهي المهزومة في المعركة العسكرية.

عندما لاحت بداية الانفتاح على سوريا التي صمم وزير الخارجية جبران باسيل البدء بها، اندلعت التظاهرات في الشارع، حاملة شعارات مطلبية. ردّ السيّد أن المطالب مُحقّة لإدراكه أن المطالب ليست هي المشكلة. وعندما رُفع مطلب سقوط الدولة، بشعار "كلن يعني كلن"، ردّ السيّد أن سقوط الحكومة، والعهد، والمجلس النيابي، لن يحل المشكلة، لإدراكه من خلال تطوّرات المعركة العسكرية، أن المشكلة ليست في السلطة الآن، وإنما في أية صيغة للبنان يُراد الوصول إليها على قاعدة المنتصر.

الغرب، من جهته، وعندما شعر بضغط الانفتاح على سوريا كبداية لوضع لبنان على سكّة الحل، وهو الذي يعرف بخبراته أن القوى الاستراتيجية الشرقية ستفرض حلاً شرقيّ الهوى والطابع، صعد بدفع الحركات الملوّنة إلى الشارع، تحت مطالب حياتية، في الظاهر، لكن هذه القوى ترفض أيّ حل تأكيداً على رفض داعميها الغربيين نقل لبنان إلى صيغة حل لا تتوافق مع تركيبتها، ورؤاها الاستراتيجية، فمن المفترض أن يعيد الحل نوعاً من دولة الرعاية الاجتماعية بعيداً عن دولة الشركات والخصخصة.

نحن اليوم أمام مرحلة مفصلية جديدة من حياة لبنان، ومن يقف خلف التحرّكات الشعبية ويستثمرها يريد كبح انضمام لبنان إلى محيطه، ويريد إبقاءه تحت سيطرتها المتوارثة من الطائف، والمزخمة بأحداث 2005، ومحاولةً حصار المقاومة بالدولار، أما رفض إسقاط "الكل"، بحسب ما يريده السيّد نصرالله، فليس هدفه دعم الفساد، وإنما إفساح المجال للحل اللبناني أن يأخذ طريقه بالتوازي مع حلول المنطقة، على قاعدة المنتصر.