"إنسانيّة" الصحافي.. لكل ظرفٍ قرار؟
في الجامعة، جاءنا في أحد الامتحانات سؤالُ ملغوم: إذا كنت في منطقة تشتعل فيها النار جرّاء الحرب، وأمامك طفل أصابته شظية، وخيار واحد فقط، إما أن تنقذه، أو تنقل صورته إلى العالم، كيف تتصرّف؟ يومها، اخترت أن أنقذ الطفل، وعلَّلت جوابي بأن الطفل نفسه سيحدِّث العالم عن تجربته. أعطتني الدكتورة وقتها نصف العلامة، وشدَّدت أن العلامة الكاملة لن أحصل عليها أبداً حتى أكون في موقفٍ حقيقي، وفي حرب حقيقية، ولديّ طفل، وكاميرا.
يجنح العالم بسرعةٍ خياليةٍ نحو التطوّر وإدخال التكنولوجيا في الأدوات الصحفية، ما حوّل أيّ مواطن عادي إلى صحافي يحمل قناعاته الخاصة ولا تسري عليه قوانين المهنة. السَبَق الصحفي والسرعة في التقاط الحدث يبقى من أولويات اهتمام الصحافي الحقيقي العامِل في المهنة، لأن الإسراع في الحصول على الخبر يجلب للمُراسِل أو الكاتِب نقاط تفوّق وتميّز على أقرانه.
وسط هذه السرعة والنقاط الذهبية التي يكتسبها، يُطرح السؤال نفسه دائماً على الإعلاميين وأهل الاختصاص، كيف يوازي الصحافي بين مهنته وإنسانيّته؟ وأيّهما يسبق؟
عندما درست الصحافة، وفي أحد الامتحانات النهائية التي خضتها في الجامعة، جاءني سؤال "ملغوم" نوعاً ما، ولم أجد جواباً واضحاً له حتى اليوم، السؤال كان: إذا كنت في منطقة تشتعل فيها النار جرّاء الحرب، وأمامك طفل أصابته شظيّة، وخيار واحد، إما أن تنقذ الطفل، أو تنقل صورته إلى العالم، وقد ننقذ بذلك آلاف الأطفال الآخرين، كيف تتصرّف؟ (ملاحظة على الجواب أن يكون مهنياً).
السؤال قاسٍ والجواب في غاية الصعوبة، يومها لم تكن لديّ أية تجربة صحفية حقيقية، ولم أكن قد اختبرت مهنة المصاعب عن قُرب، اخترت أن أنقذ الطفل، وعلَّلت جوابي بأن الطفل نفسه سيحدِّث العالم عن تجربته بنفسه، ولو أنني خسرت فرصة لأحظى بسَبَقٍ صحفي نادر وضخم، لكني سأكسب احترامي لنفسي وضميري. أعطتني الدكتورة يومها نصف العلامة، وشدَّدت أن العلامة الكاملة لن أحصل عليها أبداً حتى أكون في موقفٍ حقيقي، وفي حرب حقيقية، ولديّ طفل، وكاميرا.
لطالما كان الحديث عن الصحافيين وأدائهم أمام الكاميرا وخلفها موضِع اهتمام الناس والصحافة. حياة الصحافي تشبه حياة الفنان، وتتقاطع مع حياة نجوم مواقع التواصل الاجتماعي، والمؤثّرين الـ (Influencer) حول العالم. الناس التي تطال الشهرة حياتهم تفرض عليهم نظاماً معيّناً، شيئاً ما يشبه التدريب النفسي لكن طوال الوقت، كلّ ما يقومون به يجعل الآخر يعتقد أن له الأسباب وتترتّب عليه النتائج، وكذا الجمهور، وربما هذه حقيقة. في عالم الإعلام والصحافة، خصوصاً الصحافيين الذين يعيشون تحت الأضواء، لا تساهُل في الأحكام، ولا مُجاملة، خصوصاً عندما يكون الجمهور هو الحَكَم.
المعايير الصحفية تختلف اليوم عمّا تعلّمه الصحافيون قبل اجتياح مواقع التواصل الاجتماعي مؤسّساتهم وهواتفهم وبيوتهم. فايسبوك الذي بدأ استخدامه في 4 شباط/ فبراير 2004، أحدث أولى التغيّرات في حياة الصحافة والصحافيين، في مراحله الأولى وقبل جموع الـ "update" كان استخدام برنامج فايسبوك يجعل منك كتاباً مفتوحاً للآخر، أياً يكن، الإعجاب الذي تُبديه بتعليقات الأشخاص يظهر، لائحة أصدقائك مكشوفة، شيء يشبه بيوت الأشباح التي تخلو من الأبواب، لاحقاً بدأ "فايسبوك" بالتشدّد أكثر بإجراءات الخصوصية، بالتزامُن، بدأ روّاد فايسبوك بالتخلّي عن خصوصيّاتهم، ونشر كل ما يتعلّق بحياتهم على الموقع الأزرق، ما صنع نجوماً افتراضيين، وعزّز فُرَص النجوم الحقيقيين بالانتشار على نطاقٍ أوسع والوصول إلى قاعدة شعبية أكبر، وكذا فعل تويتر الذي أنشِىء في آذار/ مارس من العام 2006، ولاحقاً انستغرام الذي تمّ إنشاؤه في 10تشرين الأول/ أكتوبر 2010 والذي عزَّز النظرية التي تتحدَّث عن أن الصورة تتكلّم بصوتٍ أعلى من الكلمة، ما جعل تأثير الصورة في عالمنا شيئاً فشيئاً أكبر من تأثير الكلمة وهذا ما فرض على الصحافي، وإنسانيّته، تحديات جديدة.
في فلسطين المحتلة، حيث يكثُر الموت والاعتداء، يعيش الصحافي دائماً هاجِس المُساواة بين الإنسانية والعمل. مصوِّر الوكالة الأوروبية في شمال الضفة الغربية، علاء بدارنة، عاش موقفاً إنسانياً حقيقياً، وأنقذ طفلاً كان يرقد في بيته عقب استهدافه بقنابل الغاز، وتعرّضه لاختناقٍ شديدٍ بعيداً عن المواجهات الدائرة في قرية كفر قدوم في محافظة قلقيلية في العام 2015.
بدارنة اعتبر في حديث للميادين نت أنه لا يمكن فصل العمل الصحفي عن العمل الإنساني لأن الأخير من أساسيات العمل الصحفي، وهناك أشياء كثيره تحتّم على الصحافي التعامُل معها واتّخاذ قرار قاسٍ، على ألاّ يتعارض مع الحيادية والمهنية، وبحسب بدرانة هناك فرق بين الإنسانية وبين التحيّز.
وعن خيار الصحافي في حال وجود حال حرجة أمامه، والاختيار بين الإنقاذ والتصوير، اعتبر بدارنة أن لكلِ ظرفٍ قراره، وليس على الصحافي أن يتحوّل إلى رجل إسعاف، لكن إذا كان هناك موقف مُحدَّد يُساعِد فيه مَن يحتاج إلى مساعدة مع ضرورة التركيز والتفريق بين مساعدة إنسانية قد تُنقِذ حياه إنسان، وبين أيّ عمل آخر قد يقوم به الصحافي يتعارض مع مهنته الأساسية.
العمل الصحفي مقرون إذاً بالعمل الإنساني، لا يمكن فصل هذا عن ذاك، لا يمكن تحديد الغَلَبة لمَن، بعض الآراء مُتطرِّفة نحو الإنسان وحياته، وتعتبرها أهم من أيّ مكسب.
صورة ساهمت في إنهاء حرب!
لكنّ بعض الصوَر غيرَّت وجه التاريخ فعلاً، وأوقفت حروباً، كالصورة المشهورة للصحافي "نيك أوت"، وهو مصوِّر أميركي يعمل في وكالة "أسوشيتد برس"، والذي فاز بصورة الصحافة العالمية لعام 1973 عن "رُعب الحرب" التي تصوِّر الأطفال في رحلةٍ من قصف "النابالم" (نابالم هو سائل يلتصق بالجلد، وهو قابل للاشتعال ويُستخدَم في الحروب، واستخدمه الأميركيون بشكلٍ كبيرٍ في حرب فيتنام).
صورته الأكثر شُهرة تظهر فتاة عارية تبلغ من العمر 9 سنوات، تجري نحو الكاميرا من هجوم "نابالم" جنوب فيتنام على القوات الفيتنامية الشمالية في قرية "ترانغ بانغ" خلال حرب فيتنام. أعطت هذه الصورة الأميركيين لمحة صارِخة عن وحشيّة تلك الحرب، وساعدت على إحداث تحوّلٍ حاسمٍ في الرأي العام الأميركي. ساهمت هذه الصورة وغيرها من الصور التي التقطت في تلك الحرب في وضوح الصورة لدى الشعب الأميركي، وسرعان ما أصبحت اختصاراً ثقافياً لفظائع حرب فيتنام، وأصبحت تمثل تعريفاً لذلك الصراع. عندما تساءل الرئيس الأميركي حينها ريتشارد نيكسون عمّا إذا كانت الصورة مزيفة، قال الصحافي "نيك أوت"إن "رعب حرب فيتنام التي سجلّتها لا يحتاج إظهارها إلى تنقيح الصور!"، وفي نفس العام انتهى تورّط أميركا في الحرب.
ماذا لو قرَّر "أوت" وقتذاك الركض باتجاه الفتاة واحتضانها وتخليصها من البؤس الذي كانت فيه، هل كانت ستتوقّف الحرب في فيتنام؟ لو أن عواطف الصحافي غلبت عليه ولم يستطع أن يتمالك نفسه لما كانت صورة بهذا الجمال، وهذه القسوة. ولنكن موضوعيين، ربما، لو أن أحداً صوَّر المصوِّر وهو يلتقط الصورة للفتاة ولا يُنقذها، للعَنه التاريخ على تقاعُسه عن مساعدتها. الصورة توثّق تاريخاً كاملاً من الحروب والأحداث، تُعيد الذاكِرة إلى الحقبة التي التقطت فيها، وتسترجع ما فات.
ذاكِرة الإنسان أضعف من الصورة، والصوَر أقوى من الذاكِرة بمرّات، لكنّ هذا لا ينفي أن الإنسانية يجب أن تكون أولى اهتمامات البشر مهما كان مجال عملهم، حريّ بأيّ شخصٍ أن يسبق إسمه كلمة "الإنسان" ، فيُقال "الإنسان الطبيب"، "والإنسان الفنان"، "والإنسان الصحافي".