شمال شرق سوريا بين التفاهُمات السياسية ونار الميدان

ما يحاول إردوغان فعله هو عملية وَخْز الإبر والتخدير خلال مُباحثاته السياسية، والظاهِر على الأرض هو انتهاكات بالجملة لكل المواثيق والأعراف الدولية.

تطوّرات الساحة السورية بشقّيها السياسي والعسكري، تؤكِّد أن القيادة السورية والحليفين الروسي والإيراني، ثابتون في سياستهم لاستكمال الحل السياسي في شمال شرق سوريا، فالتطوّرات المُتسارِعة التي يُحقّقها الجيش السوري تُهَنْدِس أبجديات الحل السياسي، خاصة أن كل الوقائع تؤكَّد أن المشهد السوري في عمومه ذاهب باتجاه التسويات السياسية، وتحقيق التوازُنات الاقليمية على مستوى حلفاء روسيا الأفرقاء.

وهذا ما ترجمته بنود الاتفاق الروسي التركي في سوتشي، والذي نصَّ على الحفاظ على الوضع الراهِن في المنطقة الواقعة ضمن عملية "نبع السلام"، والتي تضمّ تل أبيض ورأس العين، كما أن الشرطة العسكرية الروسية بالتعاون مع حرس الحدود السورية ستُخرِج عناصر تنظيم "ي ب ك" وأسلحتهم حتى مسافة 30 كم من الحدود التركية، وستبدأ دوريات تركية روسية مُشترَكة بعُمق 10 كم بشرق وغرب منطقة عمليات "نبع السلام".

وفي جزئيّة هامة نصَّ الاتفاق عليها، أن كافة الأطراف تؤكِّد التزامها العمل على الحفاظ على وحدة الأراضي السورية وتوفير أمن الحدود التركية.

من هنا بات واضحاً، أن جُلّ ما سبق كان الكرد السبب الرئيس في صوغ هذ الاتفاق، فالحرب المفروضة على سوريا وصلت في إنهاء الملفات المُعقَّدة، إلى ملف الكرد، حيث تأجَّجت التصريحات السياسية بين واشنطن وأنقرة والكرد، فقد قال ترامب عقب الهجوم التركي في شمال شرق سوريا في تغرديته: "لدينا واحد من ثلاثة خيارات: إرسال الآلاف من القوات وتحقيق نصر عسكري، ضرب تركيا بشدَّةٍ من الناحية المالية وعبر (فرض) عقوبات، أو التوسّط في اتفاق بين تركيا والكرد!".

وطالب مولود جاويش أوغلو في مقابلةٍ حصريةٍ مع القسم التركي في مؤسَّسة DW (دويتشه فيله) الألمانية المُقاتلين الكرد بإلقاء سلاحهم قائلاً: "الشيء الوحيد الذي يمكن القيام به هو أن يُلقي هؤلاء الإرهابيون السلاح، لقد جرَّبنا في السابق الحل السياسي في تركيا ورأينا ما حدث".

في ذات السياق، هناك جُملة من المُتغيّرات الاقليمية والدولية، فرضت حل مسألة الكرد. هذه المُتغيِّرات تمثَّلت بقرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب الانسحاب من سوريا، إضافة إلى القرار التركي لجهة اجتياح مناطق الشمال السوري. هذه المُعطيات فرضت حل مسألة الميلشيات الكردية في شمال شرق سوريا، والتحالف السوري الروسي أدَّى إلى تغيّر الاستراتيجية المُتّبعة في حل هذه القضية، عبر نَسْج مُعادلة سياسية بين دمشق وكردها من جهة، وجَذْب تركيا للدخول في هذه المعادلة من جهةٍ أخرى، بُغية التوصل إلى تفاهُمات سياسية مديدة.

الجانبان التركي والروسي اتفقا في سوتشي، على استمرار عملية وقف إطلاق النار في شمال سوريا، وهذا الأمر يؤكِّد بأن المُحادثات التركية مع روسيا قد أتت ثمارها، لكن الجانب التركي وباعتدائه على قرى الكوزلية وتل اللبن في ريف تل تمر في محافظة الحسكة، يتخطَّى الاتفاق المُبرَم مع روسيا، والذي سيؤدّي إلى تفاقم الوضع الميداني في منطقة شمال شرق سوريا.

ما يحاول إردوغان فعله هو عملية وَخْز الإبر والتخدير خلال مُباحثاته السياسية، والظاهِر على الأرض هو انتهاكات بالجملة لكل المواثيق والأعراف الدولية.

في جانبٍ آخر، تحاول أميركا مُجدَّداً جَذْب الكرد، لزرع إسفينٍ وإحداث شَرْخٍ بين ما تمّ الاتفاق عليه بين الدولة السورية والكرد، بوساطةٍ روسية، وقد صرَّح ترامب بأن "جزءاً من القوات الأميركية سيبقى لحماية حصَّته من النفط"، وهذه إشارة أميركية إلى الكرد. وتصريح كمال عاكف المُتحدِّث باسم الشؤون الخارجية الكردية لوكالة أخبار هاوارا "ستُعلِن إدارة الحُكم الذاتي الكردية قريباً عن موقفها من هذا الاتفاق"، يُعدّ بمثابة التماهي مع تصريح ترامب. وهذا يؤكِّد بأن الكرد لا زالوا يبحثون عن المظلّة الأميركية لحمايتهم.

وفي ذات السياق، فقد أعلنت إلهام أحمد رئيسة الهيئة التنفيذية لمجلس سوريا الديمقراطية الذراع السياسية لـ قسد "أنه لا يمكن الوثوق بروسيا بعد اتفاقها مع تركيا، وقالت أحمد، في مقابلةٍ مع مجلة "فورين بوليسي" الخميس 24/10/2019، إن "الإدارة لديها تجربة سابقة مع الروس في مدينة عفرين في ريف حلب الشمالي الغربي". وأشارت أحمد إلى أنها تسعى مع المسؤول العام لـ "قسد"، مظلوم عبدي إلى عقد لقاءٍ مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب، واطلاعه على آثار الانسحاب الأميركي من المنطقة.

ورغم ذلك، فإن ما يجري في الميدان من تعاونٍ بين الجيش السوري والقوات الكردية، هو التصدّي للقوات التركية والفصائل الإرهابية المُتحالِفة معها. 

 إلا أنه في نهاية المطاف، فإن الاتفاق الأخير للكرد مع  الجانب الروسي، فرض صوابيّته لجميع الأطراف السورية، وذلك لأن أميركا أثبتت خلال الفترة الماضية أنها طرف غير موثوق به، حيث قامت واشنطن خلال الأيام الماضية بخيانة الكرد السوريين والتخلّي عنهم، وأيضاً قامت بخداع الجانب التركي عندما أعلنت بأنها سوف تسحب جميع قواتها من شمال سوريا.

وبالتالي تبدو أميركا في ظلّ هذا المناخ السياسي والعسكري شمال شرق سوريا، هي الخاسِر الجيوسياسي الأكبر في الصفقة الروسية التركية، والسورية الكردية، لكن واشنطن تحاول خلق تعقيدات بُغية تبرير وجودها في سوريا، من أجل محاولة تعطيل أيّ حلٍ سياسي، وهذا الأمر عبَّر عنه  وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو بقوله، "لقد حان الوقت للأميركيين لمُغادَرة سوريا".