إطعام سكان العالم.. هل هذا ممكن؟
نحن بأمسّ الحاجة إلى نظامٍ غذائي يُنتِج طعاماً مُغذّياً من دون إيذاء البيئة أو أيّ مظهر من مظاهر رفاهيّتنا الأخرى. ولكن هل نستطيع إنتاج ما يكفي من الغذاء لإطعام مليارات البشر وفي الوقت ذاته القيام بما يلزم للحدّ من التلوّث وخسارة التنوّع الحيوي؟.
قد يؤذي الغذاء الذي نتناوله صحتنا وكوكبنا أيضاً. هذا ما توصلت إليه الدكتورة كيلي ريد، مديرة برنامج البحث في عِلم النبات الأثري في جامعة أوكسفورد.
في كتابها "إطعام سكان العالم: دروس من التاريخ لبناء مستقبل غذائي مستدام"، تشير كيلي إلى أن نحو رُبع انبعاثات غازات الدفيئة التي يولّدها البشر كل عام تنبع من طريقة إطعامنا للعالم، ومعظمها على شكل الميثان الذي تُطلقه الأبقار أو أوكسيدات النتروجين الناتِجة من الأسمدة الكيماوية وثاني أوكسيد الكربون المُنْبَعِث بسبب تدمير الغابات لزراعة محاصيل لتربية الماشية. وتحتجز تلك الغازات الحرارة في غلاف الأرض الجوي. أضحت حوادث الطقس المُتطرّفة مثل الفيضانات والجفاف أكثر تكرراً وحِدّة في عالمنا المُتَسخِّن ما أدّى إلى تدمير المحاصيل وإحداث اضطرابات في مواسم النمو. ونتيجة لذلك قد يؤدّي التغيّر المناخي إلى فوضى في موارد الغذاء المُتَزَعِزَعة أصلاً.
بحسب كيلي تواجه الزراعة تحديات جمَّة وسوف تتعاظم مع استمرار النمو السكاني العالمي.
ويُحذّر تقرير جديد حول المناخ والأرض من أن جهود كَبْح انبعاثات غازات الدفيئة، لن تنجح ما لم نلجأ إلى تغييرٍ جذري في الاستخدام العالمي للتُربة والنُظُم الغذائية البشرية والطُرُق الزراعية.
نحن بأمسّ الحاجة إلى نظامٍ غذائي يُنتِج طعاماً مُغذّياً من دون إيذاء البيئة أو أيّ مظهر من مظاهر رفاهيّتنا الأخرى. ولكن هل نستطيع إنتاج ما يكفي من الغذاء لإطعام مليارات البشر وفي الوقت ذاته القيام بما يلزم للحدّ من التلوّث وخسارة التنوّع الحيوي؟.
عُلماء الآثار والأنثروبولوجيا قد يُقدِّمون يد العون في هذا المجال. وقد شرحت كيلي في بحثها، المنشور في مجلة عِلم الآثار العالمي، الأنظمة الزراعية القديمة وإسهاماتها المُمكِنة لتحويل زراعة اليوم إلى زراعةٍ مُستَدامة.
زراعة "وارو وارو"
بحسب ما جاء في كتاب كيلي تمتلك المجتمعات في شتّى أنحاء العالم خبرات متنوّعة وطرائِق مختلفة لإنتاج الغذاء. تنتج من تلك النجاحات وحالات الفشل مفاهيم تحويل البشر للبيئات المحلية عبر الزراعة وتأثيرهم على خصائص التربة عبر آلاف السنين.
لم تكن المُمارسات الزراعية القديمة مُتوازِنة على الدوام مع الطبيعة وهناك أدلّة تاريخية على قيام الزرَّاع الأوائل بإيذاء بيئتهم عبر الرعيّ الجائِر أو إساءة استخدام الريّ ما أدَّى إلى تملّح التربة.
قامت النُظُم القديمة في حالاتٍ كثيرةٍ بتحسين خواص التُربة وزيادة الغِلال وحماية المحاصيل من الفيضان والجفاف في سعيها الدؤوب لإنتاج الغذاء. ظَهَرَ أحد تلك الأمثلة في أميركا الجنوبية في عصر ما قبل حضارة الأنكا، وتمّ استخدامه خلال الفترة ما بين عام 300 قبل الميلاد لغاية عام 1400 للميلاد.
يُعرَف هذا النظام اليوم بإسم "وارو وارو" ويتألَّف من مساكِب تربة بارتفاع مترين وعَرض ستة أمتار مُحاطة بالأقنية المائية. اكتُشِفَت هذه الأنظمة للمرة الأولى في ستينات القرن المُنصَرِم في بُحيرة تيتيكاكا ودخلت المناطق الرطبة والأراضي المُرتَفِعة في بوليفيا والبيرو في العقود التالية.
فشلت بعض المشاريع بلا شكّ وسمحت للمزارعين المحلّيين بتحسين الإنتاجية وخصوبة التربة من دون استخدام المواد الكيماوية. تحتفظ المساكِب المُرتَفِعة بالمياه بالمُقارنة مع الطُرُق الزراعية المحلية الأخرى خلال فصل الجفاف وتقوم بتصريف المياه عند زيادة الهَطل المَطَري، ما يؤدّي إلى ريّ المحاصيل على مَدار العام. تحتفظ مياه الأقنية بالحرارة وترفع درجة حرارة الهواء المُحيطة بمَساكِب التُربة بمقدار درجةٍ مئويةٍ واحدةٍ وتحمي المحاصيل من الصقيع.
قد تجعل الأقنية المُستَخدَمة في زراعة "وارو وارو" الزراعة أكثر تحمّلاً في ضوء التغيّر المناخي.
يستخدم المزارعون عبر أميركا الجنوبية هذه الطُرُق بما في ذلك في منطقة لانوس دي موكسوس في بوليفيا وهي إحدى أكبر المُستنقعات في العالم.
قد تُثبت زراعة "وارو وارو" أنها أكثر مرونة وتحمّلاً للفيضانات المُتزايدة ونوبات الجفاف المُتوقّعة في ضوء التغيّر المناخي. كما أنها تمكّن من زراعة الغذاء في الموائل المُتدَهوِرة التي ساد الظنّ سابقاً بعدم صلاحيّتها لزراعة المحاصيل ما يُخفّف الضغط عن الغابة المطيرة.
استخدام الأسماك لمُقاومة الحشرات
نستند في ما يلي إلى أبرز ما جاء في كتاب "إطعام سكان العالم: دروس من التاريخ لبناء مستقبل غذائي مستدام".
بحسب كيلي تسود الزراعة الأحادية الطُرُق الزراعية الأكثر انتشاراً اليوم. وهي عبارة عن حقولٍ شاسعةٍ تحتوي على نوعٍ وحيدٍ من المحاصيل مزروعٍ على نطاقٍ واسعٍ لضَمان غِلال أعلى، بحيث تسهل إدارتها. ولكن لهذه الطريقة آثاراً كارثية على خصوبة التربة وتضرّ بالموائِل الطبيعية وتُخفِض التنوّع الحيوي.
تترشّح الأسمِدة الكيماوية المُستَخدَمة في تلك المزارع إلى الأنهار والمُحيطات، وتقتل مُبيداتها الحشرية الحياة البرية وتخلق آفات زراعية أكثر مقاومة.
قد تجعل زراعة محاصيل مُتعدّدة وتربية أنواع مختلفة من المواشي وحجز مواطن متنوّعة للحمى موارد الغذاء أكثر مقاومة لصَدَمات المُستقبل المناخية وتُحسِّن جودتها، وفي الوقت ذاته تولِّد فُرَص عمل أكبر وتُعيد تخليق التنوّع الحَيوي.
تنتج مزارع الأرز والأسماك غذاءً أكثر وتستخدم كميات أقلّ من المُبيدات الحشرية. تمكَّنت الطرائق القديمة من إنجاز هذا التوازن بوسائل بسيطة ويُستَخدَم بعضها حتى وقتنا الراهِن. يُضيف المزارعون في جنوب الصين الأسماك لحقول الأرز في طريقةٍ يعود تاريخها إلى سلالة هان المُتأخّرة (ما بين عامي 25-220 للميلاد).
تكون الأسماك مصدراً إضافياً للبروتين بحيث ينتج النظام غذاء أكثر من إنتاج الأرز بمفرده. وثمّة ميزة أخرى لهذه الطريقة عن الزراعة الأحادية للأرز ألا وهي توفير المزارعين للأسمدة الكيماوية والمبيدات الحشرية المُكلفة، إذ يوفّر السمك مُكافحة طبيعية للآفات عن طريق التهام الأعشاب الضارّة والحشرات المؤذية مثل ثاقِبة الأرز.
ثاقِبة الأرز
أظهرت الأبحاث في مناطق كثيرة من آسيا أن زراعة الأرز مع تربية الأسماك فاقت إنتاجية الأرز الأحادي بمقدار 20% ما وفَّر الغذاء للأُسَر ومكّنها من بَيْعِ فائض إنتاجها في الأسواق.
كانت هذه المزارع المُختلطة أرز-أسماك حيوية للغاية للمجتمعات ذات الحيازات الصغيرة، ولكنها تعاني اليوم من مُضايقة المنظمات التجارية الأكبر التي ترغب بتوسيع زراعة الأرز الأحادي أو زراعة الأسماك كل على حِدَة.
قد تُطعِم زراعة الأرز مع تربية الأسماك أشخاصاً أكثر بدلاً من الزراعة الأحادية، وتستخدم في الوقت ذاته كميّات أقل من الكيماويات الزراعية التي تلوِّث المياه وتولِّد انبعاثات غازات الدفيئة.
يُذكّرنا النجاح المُستديم لهذه الطُرُق القديمة بضرورة إعادة تخيّل نظامنا الغذائي برمَّته لإطعام عشرة مليارات إنسان، وفي ذات الوقت إعادة إحياء الحياة البرية وحَبْس الكربون. وبدلاً من إعادة اختراع العَجَلة يجب أن ننظر إلى ما نجح في الماضي وتبنّيه من أجل مستقبلٍ أفضل.