الانتفاضات العربية والمُتاجرون بالفِتَن
إذا ما انبرى العُقلاء والحُكماء لمواجهة تلك الفِتَن، والمُتاجرين بها، مُقرِّين في نفس الوقت بضرورة الإصلاح، قام المُتاجرون بالفِتَن يُشهِّرون بهم بدعوى وقوفهم ضد المطالب الشعبية.
من المُلاحظات التي لا يمكن تجاهلها أننا نرى بداية أية انتفاضة عربية تكون بسيطة وواضحة، وذات مطالب شفَّافة جداً، تقتصر عادة على الهموم المعيشية وبعض الخَدَمات ونحوها، ولا تتصدّى لأية مطالب سياسية كبيرة إلا مطالب محدودة تتعلَّق بإصلاحاتٍ مشروعة وعادة يمكن علاجها عبر تحقيق تلك المطالب مباشرة، أو عبر توفير البيئة المُناسبة لتحقيقها عبر خطوات ومراحل.
لكن مَن يُمكن تسميتهم مُتاجرين بالفِتَن، سُرعان ما يركبون الموجة، ويدخلون بقوَّة، مُستغلّين الأدوات الإعلامية الضخمة، ومعها وسائل التواصُل الاجتماعي، وذبابها الالكتروني، ليُحرِّفوا تلك المطالب الشريفة عن بوصلتها الحقيقية، وهي المطالب المعيشية وما يرتبط بها من إصلاحٍ سياسي إلى مطالب لا يمكن أن يُطلَق عليها سوى كونها مطالب فتنة، لأنها لا علاقة لها بالمطالب المعيشية ولا السياسية، وإنما هي نوع من الحرب الناعِمة التي تُسْتَثمَر في الخلافات الطائفية أو الجهوية أو العرقية.
فإذا ما انبرى العُقلاء والحُكماء لمواجهة تلك الفِتَن، والمُتاجرين بها، مُقرِّين في نفس الوقت بضرورة الإصلاح، قام المُتاجرون بالفِتَن يُشهِّرون بهم بدعوى وقوفهم ضد المطالب الشعبية، ووقوفهم مع الفاسدين والفساد، وقد يكون هؤلاء الذين يذكرون هذا هم أساس الفساد ومنبعه، وأكبر المُشتغلين فيه، كما يقول المَثل العربي: (ضربني وبكى، سبقني واشتكى).
وهذا الوصف يكاد ينطبق على كل الانتفاضات العربية بدءاً بسوريا التي استجاب رئيسها مباشرة لكل المطالب المعيشية والسياسية، وبدأت جلسات الحوار مع المُنتفضين، لإقرار القوانين المُتعلّقة بمطالبهم، لكن المُتاجرين بالفِتَن لم يُرضِهم هذا؛ فراحوا يُحرِّفونها عن بوصلتها، ولم يرضوا إلا بالدمار العظيم الذي حصل، وكان يمكن ألا يحصل هذا لو اُستخدِمَ العقل والحكمة، ولم يتدخّل المُتاجرون.
وهذا ما حصل أيضاً في البحرين لكن بصورةٍ مختلفة؛ فالبحرينيون قاموا بثورةٍ سلميةٍ حضاريةٍ، ولم يطالبوا بإسقاط النظام مع كونه عميلاً لأميركا و"إسرائيل"، ولم يُغيِّروا راية الدولة، وإنما طالبوا بحقوقهم المشروعة بمَلَكيةٍ دستورية، لإشراك كل الشعب في حُكم بلده، وقرارته السيادية، لكن المُتاجرين بالفِتَن، ومنهم علماء كبار، صوَّروهم بصورةٍ مختلفةٍ تماماً، ثم راحوا يقمعونهم بحجّة أنهم طائفيون، وامتداد للنفوذ الإيراني، مع أن كل المُنتفضين هم بحرانيون، ومن مختلف المذاهب، ومطالبهم لا يمكن التشكيك في شرعيّتها.
وهذا ما حصل في الجزائر التي انتفض شعبها ضد الفساد، والمُطالبة بإلغاء العهدة الخامسة لرئيسهم، وقد تمّ ذلك كله بمُساندة الجيش، وحدّد زمن الانتخابات لكن المُتاجرين بالفِتَن، راحوا يطالبون بوقفها، وإسقاط النظام، وكل قياداته، وحتى قائد الجيش نفسه الذي وقف مع المُنتفضين، ولبَّى كل مطالبهم.
ويُخشى لو أُتيح المجال لهؤلاء أن يتحوَّل الصراع من انتفاضاتٍ سلميةٍ إلى عُنفٍ وإرهاب، وهو ما يسعى إليه المُتاجرون بكل الوسائل.
وهذا ما حصل في العراق الذي انتفض شعبه لمواجهة الفساد والفاسدين، لكن المُتاجرين بالفِتَن حوّلوا الانتفاضة إلى مواجهةٍ مع إيران، مع أن أكبر الدول التي وقفت مع العراق في جميع مِحَنِه ولا تزال تقف هي إيران، ومع أن الذين صدَّروا إليه الإرهاب والمُفخّخات والانتحاريين وقبل ذلك كل أنواع الدمار هي تلك الدول التي تُشيد بانتفاضته، وتوهِم المُغرَّر بهم أنها في خدمتهم، ومع حقوق الإنسان، وهي تفتقر إلى أدنى تلك الحقوق.
وهذا ما يُخطّط له المُتآمرون على انتفاضة لبنان؛ فمع كونها فرصة لمواجهة الفاسدين، واسترداد الأموال المنهوبة، ووضع خطة اقتصادية تنبع من مصالح البلد، لا من تبعيّاتها الأجنبية إلا أن المُتاجرين بالفِتَن، والذين كانوا على رأس قمَّة الفساد، يحاولون تحريفها عن مسارها، ليتحوّل ربائب الكيان الصهيوني مع حلفائه في المنطقة إلى قادة للثورة، التي لا يهدفون منها سوى مواجهة أشرف كيان في الشرق الأوسط جميعاً، كيان المقاومة، ليخلو الجو بعدها للأعداء، ليحوّلوا لبنان إلى حديقةٍ خلفيةٍ لأهوائهم وغرائزهم.
وقد استخدم هؤلاء المُتاجرون بالفِتَن كل وسائلهم ابتداء من رجال الدين الذين أصدروا الفتاوى والبيانات، وألّفوا الكتب والرسائل، ليحوّلوا من حروب الفتنة التي تُخرِّب الأوطان وتُدمِّر الجيوش، إلى حروبٍ مُقدَّسةٍ تحضرها الملائكة، ويرتقي القَتَلَة فيها إلى مراتب القدِّيسين والشهداء.
واستُخدِمَ الإعلام وأصحاب الأقلام المسمومة، والقنوات الفضائية التي تتاجر بتخدير الشعوب التي تستسلم لها، لتحوّل الجلاّد ضحية، والمُجرِم مُنقِذاً، والظالِم مُخلِصاً.
واستُخدِمَ السياسيون الذين لا يخدمون سوى مصالحهم، ولذلك كانت الإمارات والممالك العربية التي تتربَّع على قمَّة الفساد السياسي والمالي والأخلاقي في العالم أجمع هي الموجِّهة والداعِمة لتلك الانتفاضات التي حُرِّفَت عن مسارها، وتحوَّلت إلى أداةٍ لتخريب الأوطان، بدل خدمة الإنسان.