خياران للبنان: الموت أو الالتحاق بالانتصار
تُعبّر أزمة اليوم في لبنان عن استمرار أزمة الكيان بعد استنزاف الطائف، بموازاة ضغط أميركي تجلّى بأزمة الدولار بلوغاً إلى مرحلة الإنهاك التام لكيان ولِدَ مُهَلْهَلاً، وصارَع مُتأرجِحاً، واستمر مُتقلِّباً، وهو اليوم على حافّة الانهيار.
لا يختلفُ إثنان أن الوضعَ في لبنان بلغ قاع التدهور بما لم يشهده قبلاً، والفارِق أن الانهيار الجاري بالتدرّج يتمّ من دون ضربة كفّ، أي من دون مُجابهاتٍ أمنية. والأزمات مُتفاقِمة أمام العيون، وتُعالَج كل واحدةٍ بالترقيع، ولا تلبَث واحدة أن تُرتى، لتنفجر أزمة ثانية، فتُعالَج بمثل ما سبقها.
كثير من الخُبراء حذَّر من الانهيار، ولم يكن اللبنانيون يعرفون معنى ذلك، فقد مرَّت البلاد بأزماتٍ خطيرةٍ وكبيرةٍ، لكنها لم تصل إلى حدود الانهيار الذي يُحذّر الخبراء منه، ومنهم مَن يعتبر أنه بدأ، ولن يحتمّل البلد أكثر من شهورٍ قبل بلوغ مراحل الإفلاس.
منذ نشأته، كان لبنان تسوية للعب ِدورٍ ما، وقد قام بأدواره المُختلفة في مختلف مراحل التطوّرات الاقليمية، فكان ينوء تحتها، ويُعاد ترقيعه، والمُضيّ بتجربته للعبِ دورٍ آخر مُماثِل، وذلك يوم كان العالم في نقطةِ توازنٍ بين مرحلتيّ الإمبريالية الأميركية، والقوَّة الأوروبية معها، من جهة، والاتحاد السوفياتي ومَن معه من جهةٍ ثانية. فشَهِدَ لبنان أزمات كُبرى هدَّدت كيانه، والبداية، كعلامةٍ بارزةٍ، بأحداث 1958 في الصِراع بين الناصرية، ومحور بغداد، والمعروف أين يصبّ كلّ منهما.
انهارت مؤسَّسات الدولة تحت وطأة الصِراع الأهلي بالمضمون الاقليمي، وأُعيدَ صوغها لتعود إلى الاهتزاز بعد حرب 1967، ووفود المقاومة الفلسطينية بقوّةِ إلى لبنان، شعبياً وعسكرياً. فكانت الدولة تغيب عند كل أزمة، منها قصف العدو الصهيوني لمطار بيروت 1968، ثم المواجهات مع المقاومة الفلسطينية التي تمركزت في الجنوب، وفي مُخيّمات بيروت، بلوغاً عام 1975، لتنفجر بقوَّةٍ من دون توقّف حتى توقيع اتفاق الطائف الذي أعاد صوغ لبنان للعب الدور الذي أعقب انهيار الاتحاد السوفياتي، وكان من المفترض توسيع التجربة الليبرالية الاقتصادية الأميركية لتشمل مختلف بلدان العالم، فتولّى نظام الطائف تلك المهمّة.
انتهت تجربة كيان لبنان 1943 الفرنسية على تداعيات الصراعات الاقليمية وانعكاساتها لبنانياً، وانطلقت تجربة الطائف يوم كان العالم أحاديّ الجانب إثر سقوط الاتحاد السوفياتي، وانكشاف العالم أمام أميركا وحلفائها. بمعنى آخر، كان الطائف تعبيراً عن دستورِ غَلَبةٍ، بطريقةٍ ما، بأيدٍ أميركية.
باندلاع أحداث العالم العربي، وخصوصاً سوريا، ودخول لبنان غير الرسمي في مَعْمَعة الصراع، كان من المُفترَض أن يشهد البلد عملية انهيار ذاتية كبيرة، إلا أن "مصلحة ما" لدول العالم، والاقليم، سندت التجربة اللبنانية، ومنعتها من الانهيار.
ومع بلوغ عمليات الصِراع في الجوار السوري مراحل انتصار مُتقدِّمة لمحورٍ على محور، لم يعد لبنان الطائف قادِراً على المُضيّ إلى الأمام بمهامٍ تفرضها تطوّرات المرحلة الجديدة، ولوازمها، وكان من المُفترَض أن تتشكَّل الحكومة الحالية بطريقةٍ تُتَرِجم تحوّلات المنطقة، واختلال ميزان القوى فيها لصالح الطرف المُتقدِّم، أي محور المقاومة وحلفاؤه، إلا أن تلك الـ"مصلحة ما" فرضت إعادة تشكيل الحكومة وكأنه لم يجرِ أيّ تغيير، ولم يحدث أيّ تقدّم لمحورٍ على آخر، وجرت اللعبة على "عَمَاها" كما يُقال إنفاذاً لتلك المصلحة التي لم تتَّضح بصورةٍ تامة.
لعبة تشكيل الحكومة بما يتعارض مع موازين القوى الجديدة في المنطقة سَرَّعت في شلّ تجربة الطائف المُتهالِكة، وبالتالي في تركيبة السلطة غير المُتجانِسة، لا بل المُتعارِضة، ويمكن قراءة التعبير عن ذلك في أزمة تشكيل الحكومة التي استغرقت ما يُناهِز العام الكامل بشكلٍ غير مسبوق في لبنان، وربما في العالم، ليتأكّد أن ما كان يجري من إصرارٍ على التشكيل إنما كان بعنفٍ كامِنٍ في مكانٍ ما، حتى إذا حانت الولادة، جاءت قيصريّة بامتياز، ولتمضي عَرْجاء، كَسْحاء بامتياز.
تُعبّر أزمة اليوم عن استمرار أزمة الكيان بعد استنزاف الطائف، والاتجاه إلى انهياره، فلم تعد تُجدي معه "عَفْرَتة" من هنا، ولا "سَنْدة" من هناك. لا بل إن "المُعفرتين"، كالأميركيين، يمارسون ما يُفاقِم استنزاف الكيان بأزمة الدولار، مُحاصِراً الجميع المحلّي والإقليمي، و"الساندين" كقوى تحالف المقاومة، بمقاومتهم، ومنع المحور الآخر من تحقيق مُبتغاه، بلوغاً إلى مرحلة الإنهاك التام لكيان ولِدَ مُهَلْهَلاً، وصارَع مُتأرجِحاً، واستمر مُتقلِّباً، وهو اليوم على حافّة الانهيار، ودخول مرحلة الموت السريري لأن أحداً لم يأخذ مبادرة نقله إلى العالم المُنتَصِر الذي يمكن له وحده، إنعاشه، وإعادته إلى الحياة قبل سقوط هيكله النهائي.