تعقيدات العملية التركية شرقي الفرات وتداعياتها المحتملة
بصَرْفِ النظر عن التصريحات الأميركية والتجاذُبات الكردية والهواجِس التركية، الواضِح أن شرق سوريا مُقبِل على جولةٍ جديدةٍ من العنف السياسي المؤطَّر بتداعياتٍ عسكرية.
حسم الرئيس التركي رجب طيب إردوغان خياره بالتدخّلِ عسكرياً في شرق الفرات مع انتهاءِ المدَّةِ التي حدَّدها لجهة إنشاء المنطقة الآمِنة، ومع تلكّؤ المشاورات مع واشنطن وعدم إيجاد الصيغة المُناسبة لماهيّة المنطقة الآمِنة. هو تدخّل سيجلب بلا شك تَبِعاتٍ مُدمِّرةٍ لتركيا إردوغان، خاصةً وأن جُلّ الدول الغربية ترفض هذا التدخّل العسكري، وتراه تهديداً جدّياً لكافةِ مساراتِ المنطقةِ سياسياً وعسكرياً، حتى أن التصريحات الغريبة تحمل في مضامينها تهديداتٍ قد تلجم إردوغان عن أهدافه، فقد أعلن السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام نيَّته تقديم مشروع يدعو إلى تعليقِ عضويّةِ تركيا في حلفِ شمالِ الأطلسي إذا غَزَت سوريا، أما الخارجية الفرنسية فقد أعلنت عن قلقها من احتمالِ قيامِ تركيا بعمليةٍ عسكريةٍ شمال شرق سوريا، وأضافت أنه على تركيا تجنّب اتّخاذ أيّ خطواتٍ تتعارض مع مصالح التحالف الدولي ضدّ داعش.
تركيا نفَّذت تهديداتها لجهةِ التوغّلِ في الأراضي السورية مرتين، المرة الأولى كانت عملية درع الفرات التي انطلقت في آب/أغسطس 2016 واستمرّت حتى آذار/مارس 2017. والمرة الثانية كانت عملية "غصن الزيتون" التي انطلقت في الرُبعِ الأولِ من عام 2018.
ولعلّ نَشْوَة ما حقَّقه إردوغان في هاتين العمليتين، إضافة إلى صمتِ القوى الكُبرى عن تدخّلاته في سوريا، قد أفسح مجالاً لتهديده عبر عمليةِ توغّلٍ ثالثةٍ بُغية توسيع سيطرته على كاملِ أراضي شمال شرق سوريا.
لكن المُختَلِف في هذه المرة، أن المناخ السياسي والعسكري السائِد في شرق الفرات، فضلاً عن أن هذه المنطقة تُعدّ مسرحاً أميركياً يتجاوز في أبعاده هواجِس تركيا وتطلّعات الكرد، قد تُعرقِل التوجّهات التركية، الرامية أصلاً إلى رفعِ كافةِ أسقُف التصريحات السياسية والتحرّكات العسكرية، من أجلِ التوصّلِ إلى اتفاقٍ يُرضي إردوغان حيال المنطقة الآمِنة.
دولياً، قد لا توجد قوَّة دولية ترغَب في أن تصطدم مع تركيا عسكرياً، ويبدو أن إردوغان قد استخدم أوراقه بشكلٍ جيّدٍ، فهو يُهدِّد بقوَّةٍ بالتوغّل في سوريا، ويرفَع بذلك الضغط على واشنطن بشكلٍ يدفعها إلى التجاوب مع أنقرة على أمل تجنّب التصعيد في المنطقة.
إلى ذلك تبدو الظروف الداخلية في تركيا مُناسِبة. فبعد خسارة الانتخابات البلدية الأخيرة، يحتاج أردوغان إلى موضوعٍ يوحِّد به الأمَّة ويحشدها خلف سياسته، والموضوع المؤكَّد يتمثَّل في الأزمةِ مع الكرد. فمنذ أن نفَّذت الدولة التركية عملية اغتيال لكادرٍ كردي من حزب العمال الكردستاني المُعارِض في 27 حزيران/يونيو الماضي، والتي ردّ عليها حزب العمال بعمليةٍ انتقاميةٍ تمثّلت باغتيالِ دبلوماسي تركي في شمال العراق في 21 تموز/يوليو، اشتعلت من جديد نيران الأزمة الكردية في تركيا.
أضف إلى ذلك، اتّساع رُقعة الاستياء في تركيا من اللاجئين السوريين، ما يُمكن لإردوغان أن يبرِّر حملته العسكرية داخلياً بالسعي إلى توفير مكانٍ آمنٍ لترحيل اللاجئين السوريين من تركيا إلى شمال شرق سوريا.
من هنا قد تبدو الظروف والوقائع مُلائِمة لعملٍ عسكري تركي شرق الفرات، من وجهة نظر أنقرة. لكن هذه العملية قد تتسبَّب في ظهور سيناريوهاتٍ مُدمِّرة:
الأول- صحيح أن ترامب صرَّح برغبته الانسحاب من سوريا، لكنه عاد ليقول إننا "لا نسحب قواتنا من سوريا وإنما ننقل العسكريين من الشمال إلى مناطق أخرى". وبالتالي من المُمكن أن تقف القوات التركية وجهاً لوجه أمام القوات الأميركية الداعِمة للكرد. وإذا تجنَّب الأميركيون الوقوف إلى جانب الكرد فهذا سيقود الأخيرين إلى دمشق.
الثاني– بصَرْفِ النظر عن تصريح ترامب القائل إنه على الأتراك والكرد حلّ الوضع في ما بينهم بعد انسحاب الأميركيين من شمال سوريا، فالواضِح أن الخيار الأكثر ترجيحاً في ظلّ هذا الموقف أن يقوم الكرد بدعوة الجيش السوري لمُساعدتهم على مواجهة التهديدات التركية، ما يعني تمكين الدولة السورية ومؤسَّساتها من استعادةِ السيطرةِ على شرق الفرات.
الثالث– يتعلَّق بالداخل التركي، خاصة وأن التحرّك العسكري التركي شرق الفرات، لن يبقى من دون ردٍ كردي يصل إلى داخل تركيا، الأمر الذي يشي باحتمالية أن تكون هناك تحرّكات سياسية لمُعارضي إردوغان تُطالبه بعدم الزجّ بالقوات التركية في أتون الحرب السورية، الأمر الذي سيزيد من التعقيدات السياسية في الداخل التركي.
إضافة إلى هذه السيناريوهات الثلاثة، هناك سيناريو قد يتبلور إذا ما رغب ترامب حقاً بالانسحاب من سوريا. ولإنهاء الوجود الأميركي في سوريا، ينبغي على واشنطن أن تفكِّر في إقامةِ حوارٍ مع روسيا، أكبر قوَّة خارجية نَشِطة في سوريا. وينبغي استخدام المُحادثات لمحاولة إنهاء النزاع، وهذا يتطلَّب تقديم تنازُلات أميركية للجانب الروسي، أما الجزئيّة التركية في التفاهُم الروسي الأميركي، فربما يتمّ إجبار تركيا على الدخول في حوارٍ مع الكرد، لضمان الأمن في الشمال الشرقي من سوريا، ونتيجة لذلك ستضغط موسكو وواشنطن على أنقرة لتحقيق هذه الغاية. وعليه سيكون إردوغان خارج إطار التفاهُمات في حال تحقَّق هذا السيناريو.
في المُحصّلة، على صنَّاع القرار السياسي في تركيا، أخذ كافة السيناريوهات بالحسبان، تجنباً للأسوأ. من هنا يبدو أن كل التحرّكات التركية تأتي في إطار ممارسة أقصى الضغوط على الجانب الأميركي لدفعه إلى قبولِ منطقةٍ آمِنةٍ فاصِلةٍ بعُمقٍ واسع، وتتناسب مع تطلّعات تركيا.
في هذه المنطقة لا يُريد الأتراك أن يكون للكرد وجود عسكري فيها. لكن الكرد أعلنوا بشكلٍ واضحٍ بأنهم لن يخضعوا لإرادة أنقرة ولن يتخلّوا عن أهم الإنجازات التي حقّقوها في المنطقة والمُتمَثّلة في الإدارة الذاتية لها. وبصَرْفِ النظر عن التصريحات الأميركية والتجاذُبات الكردية والهواجِس التركية، الواضِح أن شرق سوريا مُقبِل على جولةٍ جديدةٍ من العنف السياسي المؤطَّر بتداعياتٍ عسكرية.