إضراب المُعلّمين في الأردن عن الاحتجاجات الاقتصادية والسياسة
الإحصائيات المُرعِبة الصادِرة عن المؤسَّسة العامة للضمان الاجتماعي تُعطي تصوّراً واضِحاً عن الوضع الاقتصادي في الأردن، 44.7% من العاملين الأردنيين يحصلون على أجورٍ أقل من 550 دولاراً شهرياً، و93% من العاملين يتقاضون راتباً أقل من 1400 دولار شهرياً.
أخيراً وصل إضراب المعلمين في الأردن إلى القضاء، والمُلفِت للانتباه في المسألة أن الحكومة ليست طرفاً في الدعوة، وهذا ما يروق لها في التعامُل مع مُعظم التحرّكات الاجتماعية التي تُطالب بتحسين ظروفها المعيشية؛ وهو أن تضع المجتمع في مواجهة الفئة المُحتجَّة من زاوية تعطيل مصالحه واحتياجاته؛ ومن ذلك اعتبار إضراب السائقين تعطيلاً للمواصلات العامة وحاجات المجتمع، واعتبار إضراب الأطباء تهديداً لحياة المواطنين – على الرغم من استقبالهم للحالات الطارِئة آنذاك - وأخيراً اعتبار إضراب المعلمين تعطيلاً لمصالح الطلبة والأهالي.
يدور النقاش للخروج من الأزمة في هذا الإطار التقني، تضخيم حال التناقُض بين الفئة المُحتجَّة والمجتمع من جهةٍ أولى، وتقديم اقتراحات للبحث عن مصادر مُمكنة لتأمين 170 مليون دولار سنوياً تغطّي مطلب المعلمين من جهةٍ ثانية (من أين نأتي بالمال)، والقلق من فتح شهيّة قطاعات اجتماعية أخرى للمُطالبة بتحسين ظروفها هي الأخرى من جهةٍ ثالثة.
استحوَذَ البحث عن مصدر الـ 170 مليون دولار على حصّة كبيرة من الجَدَل حول آليّة الخروج من الأزمة؛ طال هذا الجَدَل ميزانية الدفاع التي يحتلّ فيها الأردن المركز الثاني عشر عالمياً كنسبةٍ من الناتِج المحلي الإجمالي للدولة، وأن هذا الإنفاق تضاعَف 3 مرات بعد توقيع اتفاقية السلام مع الكيان الصهيوني! الاعتماد على مزيدٍ من الضرائب، التي تشكِّل 66% من إيرادات الدولة، حسب ميزانية 2019م، يُعرِّض البلاد إلى هزّةٍ مُشابهةٍ للإضراب الشامل الذي شهده الأردن العام الماضي، وهو أمر غير ممكن، على المستوى المنظور.
إذن يبقى السؤال الأهم المطروح على الطاولة "من أين نأتي بالمال"؟
تبدو الإجابة عن السؤال غير مُمكِنة عبر الحلول التقنية المُبسَّطة، وتقليب الأموال بين القطاعات المختلفة من خزينة تعاني إيرداتها تراجعاً حادّاً.
الإحصائيات المُرعِبة الصادِرة عن المؤسَّسة العامة للضمان الاجتماعي تُعطي تصوّراً واضِحاً عن الوضع الاقتصادي في الأردن، 44.7% من العاملين الأردنيين يحصلون على أجورٍ أقل من 550 دولاراً شهرياً، و93% من العاملين يتقاضون راتباً أقل من 1400 دولار شهرياً. المُساعدات الخارجية في أدنى مستوياتها، فبعد أن وصلت إلى 1.68 مليار دولار في موازنات (2011م، و2014م بدايات "الربيع العربي"، واشتداد الأزمة في سوريا)، وصلت هذه المساعدات إلى 840 مليون دولار فقط في موازنة 2019م. أعداد كبيرة من العاملين في الخليج (السعودية والإمارات) تعود إلى البلاد، والحوالات الخارجية التي وصلت إلى حدود ال 5.6 مليارات بدأت تشحّ.
يبدو أن الأزمة بحاجةٍ إلى قراراتٍ سياسيةٍ شجاعة؛ على المستويين الداخلي والخارجي والتحالفات السياسية، تتجاوز حلول التنقيب في الخزينة لتغطية مُطالبات القطاعات المُحتجَّة.
مع إدارة ظهر الخليج عن أزمات الأردن، وملامح مصير الأردن في بنود صفقة القرن، يبدو أن الباب أصبح مفتوحاً أمام المسؤولين الأردنيين للبحث في حلولٍ جديدة، مُخالِفة للنهج الاقتصادي، الذي تبنَّته الدولة منذ نهاية الثمانينات، وغريبة عن تاريخ السياسة الخارجية الأردنية ، وتقاليدها التي اعتادت عليها منذ تأسيسها:
- لو قرَّرنا الإبقاء على ميزانية الدفاع على ما هي عليه، فيُمكن استثمارها وتوجيهها بشكلٍ مختلفٍ، ومن ذلك إدماج الجيش في المشاريع التنموية في الداخل، ومن ذلك بناء الجسور والطرُق، وتقديم الخدمات الطبية والتقنية لباقي مؤسَّسات الدولة، الأمر الذي يوفِّر الأموال التي تُدفَع للشركات العالمية.
- مع وصول الاعتماد على الإيرادات الضريبية إلى سقفه الأعلى المُمكن، يصبح الانتقال إلى "الإنتاج" أمراً لا مفرّ منه، ويبدأ ذلك في تأميم المؤسَّسات العامة التي تمَّت خصخصتها في برنامج الخصخصة الشامل في التسعينات، واستعادة كامل عمليات الإدارة والتشغيل فيها، لتأمين الاستفادة الكاملة من إيراداتها.
- فتح باب الشراكات الجديدة، ومن ذلك الخيار الإيراني، التي تضيف مهارات جديدة للعاملين الأردنيين، وتُخفِّف التكاليف المُبَالغ فيها بسبب التعاقُد مع الشركات الأوروبية والأميركية. قد يساعد ذلك في تأمين البنية التحتية اللازمة لاستيعاب العاملين العائدين من الخليج.
ليس المهم الآن التفكير في كيفيّة فكّ إضراب المعلمين، ولا القلق من شهيّة القطاعات الأخرى التي تنتظر نجاح المعلمين كي تبدأ؛ الأهم الآن هو التفكير في حلٍ سياسي واقعي، يوقِف تغوّل مُثلَّث الرُعب الذي أصبح حقيقة؛ عودة العاملين في الخليج وشحّ الحوالات، وتجفيف المُساعدات الخارجية، ووصول الإيرادات الضريبية إلى حدّها الأقصى !