أسئلة حائرة وشعبٌ لن يوقّع

ما هو مصير مُحادثات السلام التي توقّفت؟ وأيّ الخيارات والسيناريوهات هي الأكثر ترجيحاً وأقربها إلى الواقع التطبيقي المُفتَرض في المُستقبل؟

جال في فكري وأنا أستمع لأهمية الحقبة التي قادها الرئيس الراحِل حافظ الأسد وتحدّياتها في ما يتعلَّق بمسار الصِراع العربي الإسرائيلي، تساؤل له تأثيره وأهميّته الجيوسياسية على مستوى الخارِطة الإقليمية.. ما هو مصير مُحادثات السلام التي توقّفت؟ وأيّ الخيارات والسيناريوهات هي الأكثر ترجيحاً وأقربها إلى الواقع التطبيقي المُفتَرض في المُستقبل؟
كثيرةٌ هي الجدليات والمُقارَبات بصِيَغها المُعقّدة والمُتشابِكة انبثقت في محاولتي الإجابة عن ذلك. أولاً بسبب التوقيت السياسي لمثل هذا التساؤل نظراً إلى ما شهدته سوريا من استهدافٍ وتدميرٍ مُمَنهجين ودور "إسرائيل" المباشر في ذلك واستخدام سياسة (العصا الغليظة والجَزْرة المُهينة) من قِبَل واشنطن طوال عقود مسار المُباحثات، وفي إدارتها لمحور الاعتداء على سوريا لفَرْضِ أمرٍ واقعٍ على قيادة دمشق للقبول بسلامٍ غير عادل مع "إسرائيل" على غرار اتفاقيتيّ كامب ديفيد ووادي عربة.
ثانياً، من حيث الظروف الإقليمية والدولية والمُتغيّرات والتطوّرات المُتسارِعة وما يحكم النظام الإقليمي خصوصاً من توتّرٍ مُتصاعِدٍ.
ثالثاً، شكل ومكان المُباحثات المُقبلة والجهة الجديدة التي من المُمكن أن ترعاها، وبخاصةٍ بعد إعلان واشنطن اصطفافها كطرفٍ داعمٍ للأطماع الإسرائيلية عبر الترويج لصفقة القرن، واعترافها بضمّ الجولان إلى لما يُسمَّى السيادة الإسرائيلية وعوامِل نجاح أو فشل هذه المُباحثات في حال حصولها وتوقيتها الزمني.
من وجهةِ نظرٍ شخصية وبخبرةٍ سياسيةٍ مُتواضعةٍ أعتقد أن الواقع السياسي يفرض علينا أن نفكِّر بمثل هذا السؤال، ومحاولة وضع إجابات عليه في هذا التوقيت السياسي بالذات، لكي نتمكَّن من فَهْمِ سبب الحرب على سوريا طيلة السنوات الماضية واحتمالية استمرارها بأشكالٍ مختلفةٍ، ليس فقط نتيجة موقعها الجغرافي الهام ولا امتلاكها موارد غنية، بل نتيجة مواقفها وإرادتها التي لا تُلبّي طموحات إسرائيل ومصالح أميركا، لذلك فإن التصوّرات تدور حول السيناريوهات المُحتَملة التالية:
السيناريو الأول: استئناف مُباحثات السلام، ويمكن تقسيم هذا السيناريو إلى خياراتٍ عدَّة:
- أن تُمارس واشنطن ضغوطاً على دمشق للقبول بذلك مقابل حل الأزمة السورية ورَفْع الحصار الاقتصادي عنها، وهذا الخيار ليس بجديدٍ بل أعلنته صراحة وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون منذ بدء الحرب على سوريا، وهو سلوك مازالت تنتهجه الإدارة الأميركية عبر مساعيها لفرض صيغة حلٍ للأزمة السورية مقابل السلام مع إسرائيل والتطبيع معها، وذلك برز مؤخَّراً في النقاط العشر التي قدَّمتها المجموعة المُصغَّرة حول سوريا، ويعني في الوقت نفسه أن تحتكر واشنطن حصرية الوساطة، لكن هذا الخيار هو مرفوض تماماً لقيادة دمشق التي ترفض أية صيغة للمُقايضة عرضتها وتعرضها واشنطن.

- الخيار الثاني رعاية روسية- أميركية لعملية السلام كتعبيرٍ عما شهده النظام الدولي من تغيير موازين قواه، ومثل هذا الخيار أعتقد أنه مُستَبْعَد نتيجة العامِل الداخلي لأميركا، فهناك تيار تمثّله قوَّة لا يُستهان بها من مؤسَّسات الدولة العميقة وفي مُقدّمها (الكونغرس) الذي يرفض أيّ تعاون مع روسيا في أيّ مجال، ووجود تيار مُتعصِّب لمصالح إسرائيل، ويرى أن شراكة واشنطن مع روسيا لن تسمح للأولى بامتلاك هامش مناورة لتحقيق مصالح إسرائيل.
وضمن هذا الخيار أو في خيارٍ منفصلٍ يمكن العودة إلى طرح مؤتمر دولي لرعاية عملية السلام وإعادة إحيائها في حال حصول توافق بين الجانبين الروسي والأميركي، على غرار مدريد 1991 ولكن بصبغةٍ مزاوجة القطبية في الرعاية الوسيطة، وقد يكون كمؤتمر دولي يشمل الإقليم الشرق أوسطي أي عملية سلام شاملة للإقليم وبمراحل مُتعدِّدة.
- الخيار الثالث أن تتم المُحادثات برعاية روسيا كوسيطٍ دولي جديد، ومثل هذا الخيار يستند إلى بعض مؤشّرات ترجيحية، أهمّها:
. 1 خروج سوريا من عُنق الزجاجة وعدم تمكّن واشنطن وتل أبيب من فرض أجنداتهما عليها في تغيير مواقفها واصطفافاتها، لا بالقوَّة العسكرية 2006، ولا بالحرب الناعِمة منذ عام 2011 (توظيف الإرهاب، والحِصار الاقتصادي، اعتداءات مُتكرِّرة والاستنزاف...إلخ).
. 2 علاقات موسكو الإستراتيجية مع دمشق وغير العدائية مع تل أبيب ووجود مصالح مشتركة بينها وبين طرفيّ الصراع بل وأطراف الصراع الأخرى في لبنان وإيران.
. 3 امتلاك سوريا ومحور المقاومة قُدرات عسكرية أثّرت في تغيير موازين القوى منذ عام 2006 والتي من شأنها تقييد السلوك العدواني الإسرائيلي والهيمنة الأميركية، وتطوير قُدرات هذا المحور وتفوّقه في بعض تفاصيل وجزئيّات هذا الصراع بما فيها الصناعات التكنولوجية العسكرية والحرب النفسية وصِراع الأدمغة والعقول.
.4 تغيير النظام الدولي في شكله وطبيعته وأطرافه التي لديها قُدرات تأثيرية في ظلّ تراجُع النفوذ الأميركي، فضلاً عن وجود مشاريع جيوسياسية واقتصادية لهذه الأطراف وبخاصةٍ روسيا والصين (مشروعا الأوراسي وخط الصين)، واللذان يتطلّبان تأمين بيئة خالية من الصِراعات لنجاحهما.

نجاح هذا السيناريو بخياراته المُتعدِّدة مُرتبط بعاملٍ أساسي، هو قبول "إسرائيل" باستئناف مسار المُحادثات من حيث توقّفت ومن دون شروط، ومثل هذا العامل غير متوافِر في الداخل الإسرائيلي رغم تراجُع فاعلية قوَّتها العسكرية وتصدّع داخلها السياسي والاجتماعي.
الأمر الذي يقودنا إلى السيناريو الثاني: الحرب الشاملة. ومثل هذا السيناريو مطروح بشدَّة ، لأن تجربة تحرير الجنوب اللبناني أصبحت تمثل أنموذجاً لمحور المقاومة في استرداد الحقوق سواء كان دولاً أو حركات مقاومة في ظلّ عدم جدوى مسار التسوية، وسعي محور المقاومة إلى تطوير قُدراته العسكرية وعدم انجراره خلف السلوكيات العدوانية الأميركية ربما يكون هدفها انتقاء التوقيت المناسب لمثل هذه الحرب، وبخاصةٍ دمشق التي اكتسبت حلفاء لن يتخلّوا عنها كما تشرين التحريرية، ولكن حسابات مثل هذه الحرب ستكون حسَّاسة ومصيرية للغاية ولها ارتباطات وعلاقة أيضاً بالقوى الدولية الصديقة لدمشق ومحور المقاومة ولاسيما روسيا الاتحادية، لأن اندلاعها لا يعني انحصارها ضمن الخارِطة الإقليمية، بل قد تتَّسع لتتحوَّل إلى حربٍ عالميةٍ في حال التدخّل الأميركي واستخدام إسرائيل أسلحتها النووية ضد إيران وسوريا، وهذا سيفرض تحدياً أمام الروسي إما المُشاركة وعولمة الحرب أو الوقوف جانباً وانحسار دوره باستثناء تقديم الدعم العسكري لمحور المقاومة.

السيناريو الثالث: وهو الأكثر ترجيحاً ويدور حول أحد الاحتمالين:
1- الاحتمال الأول حصول اشتباك عسكري إقليمي محدود ومضبوط بمبادرةٍ من محور المقاومة لتضييق الخِناق على إسرائيل مع زيادة النفوذ الروسي في المنطقة، لإرغام إسرائيل على الانسحاب وتطبيق القرارات الدولية تحت ضغط الاشتباك.
2- الاحتمال الثاني بقاء الصِراع مفتوحاً من دون التوصّل إلى أية نتيجة، أو إجراء مُباحثات من دون التوصّل إلى أية نتيجة أي المفاوضات بهدف المفاوضة، وهذا الأسلوب تحبّذه إسرائيل للتنصّل أو اتهام خصومها بالتعطيل، ولكن بقاء الصراع قائماً هذا يعني بقاء المنطقة ساحة للكباشات والمشاريع المُتناقِضة الأمر الذي يجعلها قابلة للتجاذُبات الإقليمية والدولية.

قد أكون صائِباً في ما طرحته من تصوّراتٍ وقد أكون على خطأ، ولكن في كل من الحالين أجزم بأن مَن يُراهن على أن تُساوِم وتُقايِض القيادة السورية على بقاء النظام السياسي على شكله وحلّ الأزمة مقابل سلام غير عادل مع إسرائيل هو منفصل عن الواقع السياسي، ومَن يُراهِن على الوقت لتحقيق خَرْقٍ دستوري وسياسي في الانتخابات الرئاسية عام 2021 باستخدام كافة أشكال الحرب الناعِمة من الإرهاب والاقتصاد والأمن واللاجئين لتغيير النظام السياسي السوري عليه أن ينتظر كثيراً.