جبل صافي.. المقاومة تكشف دروبها السرّية

افتتحت المقاومة الإسلامية في الأسابيع الماضية مسيراً جهادياً جنوبي لبنان تحت عنوان "درب صافي مليتا" يمتد من جبل صافي إلى مليتا، وهو المكان الذي انطلقت منه المقاومة إبان الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان. ويهدف المسير إلى تعريف الزوّار عن كثب على هذه المنطقة الغنيّة بقصص المقاومين والشهداء نظراً لرمزية المكان الذي انطلقت منه العمليات العسكرية آنذاك.

ذلك المكان يُشبه وجهوهم التي لفحتها الشمس، ورسم شقوقها عبر السنين صقيع الشتاء. ثمة ما لا يمكن وصفه هنا بمُجرَّد أن تراه بعينك. تسأل نفسك كيف استمرّ هؤلاء؟ ما هي القوّة التي حملوها حتى وصلوا إلى هنا. سرنا وراء "أبو عباس"، الرجل الخمسينيّ، الذي استقبلنا ببسمةٍ تحمل وراءها الكثير من المُفاجآت. إنه الصيف الأول الذي يُستَقبل فيه ضيوفاً في هذا الموقع العسكري. ترتسم على وجه "الحاج" سِمة الصبر. يداه السمراوتان، ما زالتا مهمورتين بعلاماتِ الجراح، تُخبر بآلامٍ رممّتها السنوات. تسير خلفه في مسير جبل صافي، الجبل الذي وُلِدَت من رحمه المقاومة، والدهشة تعتريك من قسوة الأرض وصخورها.

في ذاك المكان، لا تزال معالم المواقع العسكرية القديمة، كأن المقاتلين غادروها للتوّ. لم تشخ روح المقاومة فيها. طرقات وعِرة شقّها المقاتلون. مسير مكشوفٌ لأعين العدو. وحدها "الغطيْطَة" كانت تقيهم خطر الطائرات. هناك جبل تسلّقوه طويلاً، وهم يحملون من مليتا إلى اللويزة والمعسكر في جبل صافي العتاد والذخيرة وجِرار الغاز رغم ثقلها، فتسقط أرضاً من حدّة الجبل واستقامته. ثم ينزل حاملها مُجدّداً إلى الأسفل من دون تأفّف، رافعاً على ظهره خمسة وعشرين كيلوغراماً برضا تام، كما يحمل على كتفه عهده بالمقاومة بثباتٍ وإصرار.

كلما حلّقت الطائرات، اضطر المقاومون للتوقّف إلى حين مغادرتها. أحدهم كان ينتهز الفرصة لقراءة الدعاء. صفحات الكتاب المُهترِئة كانت كفيلة بتخيّل المشهد الذي يبدو أنه تكرَّر كثيراً. أغطية شتوية هنا وهناك، لا تزال كما هي على مرّ العقود، أولفتها مادّة ترابية رطبة. معلبات خاوية صدَأ الحديد غلافها. علبة القشطة كانت "أكلة العيد". محراب صغير على بابه صخور رُتبّت فوق بعضها البعض لتسترهم أثناء الصلاة. مكان يذكّرهم بالشهيد أبو تراب، صاحب السجدة الطويلة، التي تمتد من صلاة الصبح إلى شروق الشمس. سواتر على أغصان الأشجار، كانت تُستخدَم لحجب نور الشمع ليلاً، لا تزال مكانها، تأبى مفارقتها. تجذبك إليها كأنها إشارة تقول: "تذكّروا أيام الله، لا تهملوها. احفظوها كالأمانة. اكتبوا عنها. علّموها لأطفالكم. هنا ذرفوا الدماء. نذروا أرواحهم. عرج الشهداء لتعيشوا بسلام". هذا جزء من الدَين الذي نحمله على أكتافنا.

لا يصدّق أبو عباس، هو نفسه، كيف نجا من معارك عنيفة هناك. يعود بذاكرته بغصّةٍ إلى يوميّاتهم، مغارات طبيعية غير صالحة، طاولات خشبية مُغطاة للنوم، ثقوب في الصخور تقطر الماء من فوقهم. لا سلاح مُتقدّم، لا أعداد كبيرة، لا احتضان شعبيّ كما اليوم. لم تكن لدى الأهالي رؤية واضحة حول المقاومة. أكثر ما كان يتردّد إلى مسامعهم: "هذه إسرائيل لا أحد يقدر على هزيمتها". هنا رجال أصمتوا المقولة الشهيرة. بكى السيّد عباس الموسوي في هذا المعسكر عندما زاره للمرّة الأولى. أطعم المقاومين بيديه. هناك كان لقاؤهم الدوري وانصهارهم مع صخور الجبال.

على الرغم من مرور كل هذه السنوات، إلا أن أبو عباس كان يتذكّر قصص المقاومة بأدّق تفاصيلها وفي كل بقعة مررنا بها، نقشت في ذاكرته كالنقش في الحجر. يتحدّث عن رفاقه الشهداء، تدمع عيناه لشوقه إليهم. يُقسِم أنه لم يرَ رجالاً أشدّ بأساً منهم، وأصدق قولاً وأحسن عملاً. يقف في زاوية ليحدثّنا عن شهيدٍ لم يبلغ الرابعة عشرة من عُمره، الذي أرسل والده معه ورقة وقّع فيها على السماح له بالذهاب. يقول: "والدي وافق على ذلك.، أنا أنتظر الشهادة، ولا يحق لك أن تمنعني من ذلك". أتى ذلك بعد محاولة أبو عباس ردّه إلى منزله. سرعان ما نال أمنيته، استشهد الفتى بعد أيامٍ قليلة. هنالك في بقعة أخرى، يروي لنا أبو عباس كيف نجا من غارة هو ورفيقه، عندما احتضنا بعضهما تحت صخرة لحظة سقوط صاروخ بعيداً عنهما بأمتارٍ قليلة، لا تزال بقاياه تحت التراب. تمتلأ عيناه بالدموع. يعود بلمحة ليبتسم، فقد تذكّر مُلاطفة رفيقه بعد استفاقتهما من هَول الغارة، عندما سأله ممازحاً "لماذا كنت فاتحاً يديك؟"

هناك في تلك الزاوية بئر يصّب الشتاء فيه، فيجرف إلى داخله التراب والصخور والأوساخ. عمل المقاومون على تصفية المياه بقماش الجوارب، أو غليانها لتطهيرها من الميكروبات. تغدو المياه ثلجاً في فصل الشتاء، فيُذيبوها على حرارة الشمع للوضوء. على طول الطريق، تجد علامات استخدمها المقاومون لترشدهم نحو الاتجاه الصحيح، فالسير ليلاً في تلك المنطقة كالسير معصوب العينين. حفرٌ بين الصخور للإحتماء أينما مررت. لم تكن الأنفاق قد وجدت بعد، فكانت الملجأ الوحيد من الغارات. هناك بقعة شهدت على حصارهم ستّة أشهر، صمدوا خلالها على رغيف خبز جاف طيلة اليوم، رغم مشقّة الظروف وجهد الرصد والاستطلاع والتخطيط والهجوم.

في إحدى النقاط المكشوفة على موقع للاحتلال، اعتاد المقاومون المرور منحني الظهور، إلا أن الشهيد علي وهب حجازي، المعروف بـ"أبو رائد" كان يمرّ غير آبه من فرط شجاعته، ربما إيمانه، وهو يضع يديه على السلاح الممد أفقيّاً على كتفيه. يلومه رفاقه "هذا خطر على حياتك"، يُجيبهم بطمأنينة "ما تعتلوا هم ما رح استشهد، بعرف أيمتن ووين رح استشهد". أبو رائد، المسؤول عن العبوات آنذاك، كان يقبّل العبوة قبل زرعها ممازحاً إياها: "بَيْضيلي وجي ما تجرّصيني". غادر علي حجازي في 11/11 من العام 1993 كأيّ يوم آخر، ودّع رفاقه مُدرِكاً أنها المرّة الأخيرة، واستُشهد.

طوال المسير كانت عبارة "حماكم الله وآجركم يعطيكم العافية"، بلجهةٍ جنوبيةٍ أصيلة، ترافقنا عندما كنا نتعثّر لقسوة الطريق. وكأن ما تحمّلناه في ساعات، يساوي لحظة واحدة ذاقها المقاومون تحت قصف الطائرات إبان احتلال الجنوب. يختم أبو عباس بالقول: "لم نعتد على مثل هذا العمل (أي الدور الذي يضطر فيه إلى سرد قصصهم)، هذا جديد علينا. أحاول التأقلم معه، فلقد ربينا مع هذه المقاومة على كتمان ما نفعل، وما حدث أو يحدث معنا. أشعر بالخجل عندما أتحدّث عن قصصنا". ظهر ذلك بوضوحٍ على وجه أبو عباس. عفويّته وخجله، رغم محاولته إضمارهما، قصّ علينا ذلك طيلة النهار. لكن جبل صافي، نواة المقاومة، رفض أن تبقى هذه القصص ولو القصيرة طيّ الكتمان، وأبى إلا أن يحفظ الإرث.