إصلاح النظام السياسي العراقي.. مدخل قانون الانتخابات
إن التغيير الحقيقي في العراق يبدأ من تغيير قانون الانتخابات لكن بالتأكيد ليس بالانقلاب العسكري.
هل يمكن للعراق تغيير نظامه السياسي القائم على المُحاصَصة؟ بكلمةٍ أخرى، كيف يمكن التخلّص من نظام المُحاصَصة من أجل بناء دولة عراقية حديثة وقوية ومُهابة؟.
بعض العراقيين يتذكّر عهود غابرة من الظلم والحكم الاستبدادي ويعي في الوقت نفسه أنه في تلك الحقبة كان هناك على الأقل شكل دولة. مركزية الدولة وهيبتها وتمكّنها من فرض القوانين هو ما تحنّ إليه شرائح من المجتمع العراقي، وليس الحنين إلى الجلاَّد. لقد مسخ الاحتلال الأميركي شكل الدولة العراقية وفق منظومة سياسية تُعرَف بنظام المُحاصَصة السياسية التي أفقدت الدولة العراقية هيبتها وسلطتها في الداخل والخارج.
أسَّس الاحتلال الأميركي للعراق بعد عام 2003 نظام المُحاصَصة السياسية ذات الطابع الطائفي والقومي والمناطقي، وسعى المحتل الأميركي بكل قوّة إلى تثبيت هذا النظام بتوزيع المناصب الرئاسية في الحكومة العراقية بين المكوِّنات على أسُسٍ طائفيةٍ وقومية. وعلى هذا الأساس صار النظام السياسي العراقي قائماً على المُحاصَصة وبات أمام المشاكل والأزمات ولا غرابة فهو من نِتاج المحتل.
وفي العراق يستخدم السياسيون كلمة "مكوِّنات" للدلالة على الطوائف والقوميات، وهذا المُصطلَح من تأليف الاحتلال الأميركي وتمّ ذِكره في الدستور العراقي عدَّة مرات، واستخدم الدستور عبارات مثل التوازُن بين المكوِّنات بدلاً من المساواة بين المواطنين. وتجدر الإشارة إلى أنه تمّت كتابة الدستور العراقي في عام 2005 بوجود جيش الاحتلال الأميركي.
مفهوم المُحاصَصة السياسية في العراق يقوم على تعريف المواطن بحسب انتمائه الطائفي والقومي، وتحديد نسبة كل طائفة أو قومية لمعرفة نسبة حصّتها في مؤسَّسات الدولة. وكانت الغاية حماية حقوق الأقليات في النظام السياسي، لكن هذا المفهوم السياسي بدأ بتعريف المواطن وفق انتمائه المذهبي والقومي، وانتهى بعمليات فسادٍ وهدرٍ للأموال وسوء خدمات طالت جميع المواطنين.
هذا النظام السياسي ذو الصناعة الأميركية تسبَّب في أزماتٍ مُتتاليةٍ في البلاد كادت أن تُنهي وجود الدولة العراقية في عام 2014 عندما انهار الجيش العراقي واحتل تنظيم داعش ثلث الأراضي العراقية. ببساطة، تسعى جميع الأحزاب العراقية من الطوائف والقوميات المختلفة إلى المشاركة في الحكومة والمساهمة الفعلية في الإدارة التنفيذية، ما يؤدّي إلى عدم وجود أيّ حزب سياسي مُعارِض كبير أو صغير، حتى أن الأحزاب التي تستخدم جماهيرها في الاحتجاجات ليست أحزاب معارضة وإنما تسعى إلى الضغط على رئيس الحكومة أو الحكومة لتحقيق منافِع إضافية. والمُتابِع للشأن العراقي يرى بوضوحٍ أن النظام السياسي يتخبَّط بفوضى عارِمة وأن رئيس الوزراء مُقيَّد بسلاسل الأحزاب الكبيرة والصغيرة.
وأدَّى نظام المُحاصَصة إلى تشجيع الأحزاب المختلفة على سوء استخدام تخصيصات الموازنة عبر لجان المشتريات والتعاقُد مع جهات خارجية وداخلية بعيداً عن مؤسَّسات الرقابة التي بدورها خضعت للمُحاصَصة أيضاً، ما نتج من حالات فساد جعلت بعض نواب البرلمان العراقي يستجوبون وزراء على حالات فساد. وإضافة إلى حالات الفساد، حصل هَدْر مالي من الموازنات الحكومية بسبب سوء التخطيط.
واستقرّ نظام المُحاصَصة السياسي في العراق إلى تحكّم خمسة آلاف شخص تقريباً من مختلف الأحزاب في النظام السياسي والاقتصادي والتنموي، وشكَّلوا منظومة لا تسمح بمُكافحة الفساد أو تحسين الخدمات أو تطوير التنمية الاقتصادية! وكلما اقتربت الانتخابات أو شعر طرف بالإحراج السياسي، لجأ إلى ضرب الوَتر الطائفي أو القومي لكَسْبِ الناخبين.
إن تغيير قانون الانتخابات هو بداية حل الأزمات في العراق وذلك أن قانون الانتخابات العراقي جعل من العتبة الانتخابية مُيَّسرة جداً لأيّ حزب، وعليها دخلت عشرات الأحزاب في البرلمان مُسبِّبة فوضى كبيرة في العمل السياسي. إن أساس التغيير في العراق يبدأ من تغيير العتبة الانتخابية في قانون الانتخابات، لأنها ستنهي حال الفوضى في البرلمان والحكومة ومؤسَّسات الدولة التي لا تتلاءم مع بعضها البعض وتوفّر مناخاً مناسباً للفساد وهَدْر الأموال وسوء التخطيط.
ولعلّ في أنموذج قانون الانتخابات التركي خير بُرهان. ففي تركيا ما بين 1960 و1980 حصلت أمور مُشابهة لما يحصل في العراق اليوم، حيث كانت الحكومات المُتعاقِبة خلال تلك الفترة حكومات مُحاصَصة حزبية، تسلَّطت فيها مجموعة من الأحزاب على مقاليد الدولة وشكّلت منظومة فساد وفَّرت فيها الحماية للفاسدين، وعلى إثرها ساءت الخدمات وتدهور الأمن في نهاية السبعينات بسبب انتشار ميليشيات الأحزاب والعصابات الإجرامية.
قام الجيش التركي بانقلابٍ عسكري. وعند مراجعة قادة الجيش لماهية سوء الأوضاع وأسبابها، أرادوا تشكيل حكومة من دون مُحاصَصة حزبية وتولّي شخصية قوية لرئاسة الوزراء. وتمّ تغيير قانون الانتخابات، وفي القانون الجديد تم وضع عتبة انتخابية تنصّ على حصول أيّ حزب على عشرة بالمائة من الأصوات الكلية الصحيحة من الانتخابات لدخول البرلمان. على سبيل المثال، إذا افترضنا أن عدد الأصوات الكلية الصحيحة في نتائج الانتخابات عشرة ملايين فإن العتبة الانتخابية هي مليون صوت! ولو حصل حزب على 950 ألف صوت فلن يدخل البرلمان.
وعند تطبيق هذا القانون الانتخابي في انتخابات تركيا عام 1983، فشلت جميع الأحزاب الصغيرة في الدخول إلى البرلمان ونجح حزب الوطن الأمّ بزعامة تورغوت أوزال بتشكيل الحكومة مُنفرداً، وقاد حملة إصلاحات كبيرة غيَّرت وجه تركيا تماماً. وفي نهاية عام 2002، حصل حزب العدالة والتنمية بقيادة رجب طيب أردوغان على 33 بالمائة من الأصوات الكلية وبسبب عدم تمكّن بقية الأحزاب من المرور عبر عتبة العشرة بالمائة، نال حزب العدالة والتنمية 66 بالمائة من مقاعد البرلمان وشكَّل الحكومة مُنفرِداً واستقرّت تركيا بعد عشر سنوات من حكومات الأحزاب الائتلافية.
اعتقد العراقيون بعد 2003 أن الانتخابات ستُحقّق العدالة الاجتماعية والرخاء الاقتصادي باعتبار العراق بلداً نفطياً. لكن ما حصل ونحن قد أشرفنا على الربع الأخير من عام 2019 أن المواطن ما زال يتحدَّث عن توفير خدمة الكهرباء ومياه الإسالة وسوء الخدمات الطبية والتعليمية. أما وقد صارت الانتخابات لعبة بيد الأحزاب الكبيرة وتدوير لعودتها عبر نظام المُحاصَصة السياسية، فإن معظم المواطنين العراقيين فقدوا الأمل بالمشاركة الانتخابية من أجل التغيير وهو ما حصل في قلّة المشاركة في الانتخابات الماضية.
إن التغيير الحقيقي في العراق يبدأ من تغيير قانون الانتخابات لكن بالتأكيد ليس بالانقلاب العسكري مع أن العراق غير قابل للانقلابات العسكرية، والأمل الوحيد هو في تدخّل المرجعية الدينية التي تحظى باحترام المواطنين والتي أنقذت العراق من خطرٍ وجودي عام 2014 بفتوى الجهاد الكفائي. إن المرجعية الدينية بما لها من ثقلٍ في العراق هي الوحيدة القادِرة على فرض التغيير على الأحزاب وإلا فإن الوضع العام لن يتغيَّر وستبقى الأمور على ما هي عليه حتى تقع كارثة أخرى.