اتفاق تاريخي في السودان.. ماذا عن الجزائر؟

إن المَخَرج السوداني على هشاشته والتوجسّات التي تُحيط مستقبله، يبقى نموذجاً قابلاً للتطوير والتعديل، وهو مطروح أمام الأطراف الفاعلة في المشهد الجزائري، لمُقاربة عصريّة بين المدني والعسكري، قد تخرج بالجزائر إلى برّ الأمان.

من مظاهرات يوم الجمعة 6 سبتمبر 2019 في الجزائر / أ.ف.ب

بعد قرابة تسعة أشهر من الإحتجاجات، أقدم المجلس العسكري السوداني وقوى "إعلان الحريّة والتغيير" على توافقٍ تاريخي يقتضي المرور بفترةٍ إنتقاليةٍ مدّتها ثلاث سنوات، تُخرج السودان من حُكم عسكري أثقل كاهِل الشعب السوداني ما يُقارب الستين سنة، إلى حكم مدني يكون أقرب إلى تطلّعات الهبّة الشعبية التي أُشعِل فتيلها نهاية السنة الماضية.

لم يكن لهذا الحدث التاريخي الذي لاقى استحسان السودانيين، أن يُجسّد على أرض الواقع، لولا تعقّل المؤسّسة العسكريّة من جهة والمطالبين بالدولة المدنيّة من جهةٍ أخرى، لوعي الطرفين بثقل الماضي الذي ارتبط بالمكوِّن العسكري، وآفاق المستقبل الذي يتطلّب بناء دولة قويّة، بعيداً عن المصالح الشخصيّة الضيّقة. 

في المقابل تتّجه الجزائر التي شهدت سيناريو مشابهاً، من حراك شعبي إلى الإطاحة بالرئيس بعد تدخّل المؤسّسة العسكريّة، يوماً تلو الآخر إلى نفقٍ مُظلِم، وذلك بعد تمسّك المؤسّسة العسكريّة بتنظيم انتخابات رئاسيّة تحت إشراف حكومة نور الدّين بدوي (وزير الداخليّة في عهد الرئيس بوتفليقة)، في مواجهة الحراك الشعبي الذي لا يزال يطالب برحيل كل رموز النظام السابق، وتنظيم انتخابات تُديرها حكومة انتقاليّة. كل هذا يحدث في ظلّ غياب وسيط يُرضي الطرفين، ليصل الوضع إلى حال من الجمود، تُنذِر بأيّامٍ قاسيّةٍ قد تحلّ على الجزائر ما لم يتم إيجاد مخرج للأزمة في المدى القريب، حسب رؤية الخبير الاقتصادي أحمد بن بيتور. 

قد يتساءل المُتتبّع للحالتين اللّتين تتقاسما عدداً من النقاط التاريخيّة والجغرافيّة، ما إذا كان المخرج السوداني الذي تمثَّل في توافق مدني عسكري، حلاً يناسب الأزمة السياسيّة التي تعرفها الجزائر وتتنفّس بذلك الصُعداء من حال الاحتقان التي آلت إليها؟.

أصبح اليوم واضحاً  أن المؤسّسة العسكريّة بقيادة رئيس الأركان القايد صالح، هي مَن تُدير الشأن السياسي في الجزائر في هذا الظرف الحسّاس. لكن ما يتناساه البعض، أن هذه المؤسّسة ليست دخيلة على الشأن السياسي للبلاد، بل يعود تجذّرها إلى فترة اندلاع ثورة التحرير ضد المُستعمِر الفرنسي.

حيث أنها لعبت أدواراً رئيسة التصقت بالتاريخ المُعاصِر للجزائر، إنطلاقاً من جيش التحرير الوطني (الجناح العسكري لجبهة التحرير) الذي ساهم في تحرير البلاد ثم تحوَّل لاحقاً إلى الجيش الشعبي الوطني، مروراً بفترتي حُكم الهواري بومدين – الإسم العسكري الذي عُرف به-  1965-1978، و الشاذلي بن جديد (1978-1992) العقيد الذي اختارته المؤسّسة العسكريّة لرئاسة الجزائر آنذاك، وصولاً إلى العشريّة السوداء التي لعبت من خلالها هذه المؤسّسة أدواراً محوريّة، يرى البعض أنها أنقذت البلاد من الانهيار. 

هذه المدّة التاريخية جعلت دور المؤسّسة العسكريّة يتعاظم ويُلاصِق باستمرار سيرورة الدولة الجزائرية. حتى طيلة عهد الرئيس المُقال بوتفليقة الذي عُرِف بإبعاد المؤسّسة العسكريّة قدر الإمكان عن الحياة السياسية بعد تنازلات عدّة، ظلّ الجناح العسكري يُقحِم نفسه في قراراتٍ سياسيّةٍ مصيريّة، ودليل ذلك قضيّة الكوكايين وإقالة مدير الأمن الجزائري في تلك الفترة عبدالغاني الهامل بعد تجاذبات مع أطراف عسكرية.

ما لا يدع مجالاً للشك، أن المؤسّسة العسكريّة لم تستقل يوماً من الحياة السياسيّة، وبالتالي يتّضح أنّه من الصعب رحيل حكومة بدوي مع الرئيس المؤقّت عبدالقادر بن صالح، في الظرف الراهِن، لأنها تمثّل انسجاماً مع المؤسّسة العسكريّة. وما يرجّح هذا التوجّه، تصريحات الفريق أحمد قايد صالح التي نبَّه من خلالها أن  "المطالب الأساسية للشعب تحقَّقت بشكلٍ كامل" أي أن المؤسّسة العسكريّة لن تقدّم تنازلات أكثر مما فعلت.

من جهته يبقى الجانب المدني المُمثَّل في الحراك الشعبي وبعض الشخصيات والأحزاب المُعارِضة، يُشدِّد على مطالبه بالتغيير الراديكالي للنّظام، من دون أيّة تنازلات.

إن مبدأ التغيير -الراديكالي- الذي يُطالِب به الشارع الجزائري في المرحلة الراهِنة مشروع في شكله، لكنّه يبقى غير منطقي في مضمونه إن نظرنا -على حدّ سواء- إلى التجذّر التاريخي للمؤسّسة العسكريّة  والمستقبل الكارثي الذي قد يُهدّد الجزائر حال استمرار هذا الانسداد.

وعليه فإن مبدأ التنازُلات هو ما يجب أن يتحلّى به الطرفان مبدئياً،  خاصة الجانب المدني، بعدما حقّق مكاسب مُعتَبرة أهمّها حريّة المُعارضة أي "تحرير الكلمة، بما في ذلك داخل مؤسّسات الدولة"  مثلما أشار إلى ذلك الأستاذ الجامعي محمّد هناد.

إن المَخَرج السوداني على هشاشته والتوجسّات التي تُحيط مستقبله، يبقى نموذجاً قابلاً للتطوير والتعديل، وهو مطروح أمام الأطراف الفاعلة في المشهد الجزائري، لمُقاربة عصريّة بين المدني والعسكري، قد تخرج بالجزائر إلى برّ الأمان.