هجرات الفلسطينيين الجديدة
إن قضية التوطين للاجئ الفلسطيني أصبحت الجزء الأكبر والأهم في إعاقة تقدّم الملف السياسي الفلسطيني، بالنسبة للأميركيين، وغيرهم من العرب، وعليه آن الأوان أن تقدّم الحكومات العربية شيئاً لخدمة القضية الفلسطينية،وعلى الحكومات العربية تقديم البدائل لقضية اللاجئين.
جميع المعطيات والإحصائيات تُشير إلى أن هجرة أُخرى للفلسطينيين قد بدت واضحة وعلنية، من سوريا بسبب الحرب، ومن ثم لبنان بسبب سياسة التضييق التي اتبعتها الحكومة اللبنانية وسياسة الحرمان من الحقوق الإنسانية، ثم الهجرات من قطاع غزَّة بسبب الحصار الإسرائيلي المستمر من 2006م حتى الآن، وهجرات فردية أُخرى من الدول التي تمّ اللجوء إليها عام 1948م وجميع هذه الهجرات سواء فردية أو جماعية في حدود الأسرة الواحدة، يمكن تصنيفها تحت بند الهجرة القسرية أو الهجرة العقابية للشعب الفلسطيني، ومعظمها يقصد دولاً أوروبية.
ومن خلال تقسيمات اللاجئين بحسب سجّلات الأونروا، سوف أٌقدِّم رؤية تحليلية لواقع اللاجئ الفلسطيني.
ولنبدأ من واقع اللاجئين في قطاع غزَّة وسراب مسيرات العودة من جهة وحصار مخيمات اللاجئين في الضفة من جهة أُخرى.
بلغ عدد اللاجئين في قطاع غزَّة ما نسبة 24.4% من مجموع اللاجئين، والموزّعين على مخيمات القطاع، يقبعون تحت حصار إسرائيلي مستمر منذ 13 عاماً، تحت ظروف اقتصادية، وسياسية، واجتماعية هي الأسوأ على البشرية، وهي منطقة أشبه بسجن كبير محكم الإغلاق، وثلاث حروب أنهكت سكان قطاع غزَّة واستنفذت قواهم، وصراع البقاء بالبحث عن مَخرج، تَمَثل بأنشاء مرجعية جديدة سُميت بالهيئة العليا لمسيرات العودة، تبنّت المقاومة الشعبية السلمية كمخرج من أزمة الحصار، وإعادة توجيه أنظار العالم مرة أُخرى إلى قضية اللاجئين، استمرت المسيرات على أمل تحقيق هدف العودة و إن كان الأمر مستحيلاً في حد ذاته، إلا إنها إستطاعت إعادة البوصلة الدولية نحو اللاجئين مرة أُخرى، ولكن الخسائر كانت أكبر من النتائج، بإصابة حوالى 16656، وإزهاق أرواح 271 في إحصائيات وزارة الصحة الفلسطينية للعام 2018 م، وعدد من الإعاقات بلغ 105 معاقين، ما بين بتر للأطراف وإعاقات مختلفة، وسلسلة من الإجراءات العقابية الجماعية، بإغلاق المعابر، والغارات الجوية ، وإبادة جماعية لأكثر من مليون إنسان بالتضييق عليهم في حرمانهم من الحقوق الإنسانية.
كل ما سبق أدّى إلى هجرة شريحة كبيرة من الشباب، وأصحاب العقول من أكاديميين ومثقّفين، وهجرة أعداد من التجّار ورؤوس الأموال، بسبب الحصار المستمر منذ 13 سنة.
ولا أحد يعلم حتى الآن حقيقة نجاح هذه المسيرات من فشلها.
وفي ما يخصّ لاجئي الضفة الغربية، والبالغة نسبتهم 17.0 من مجموع اللاجئين العام، مقسمين على مدن الضفة الغربية، والذين أيضاً يعيشون أوضاعاً صعبة بما يفرضه الاحتلال عليهم، من حصار جزئي، ومنع حرية التنقل، من خلال تقطيع أوصال الضفة الغربية، والفصل بين المدن الفلسطينية بأنشاء حواجز التفتيش، وما يحدث بشكلٍ مستمر من صِدامات بين السكان وجيش الاحتلال والتي ينتج منها في الأغلب الإجراءات العقابية بالإغلاق أو هدم المنازل أو القتل .. الخ، وينطبق ذلك أيضاً على سكان القدس.
وكل ما سبق من ممارسات إسرائيلية بمثابة أبارتيد صهيوني يمارس ضد الفلسطينيين يُسهم في هجرتهم.
وبالحديث عن واقع لاجئي الدول العربية، فبعد 71 عاماً على النكبة الفلسطينية أصبحت قضية العودة إلى فلسطين سراباً، أو كرماد يُذّر في العيون.
ولنبدأ بواقع لاجئي الأردن والبالغة نسبتهم 39.0% من مجموع اللاجئين، وهم الأوفر حظاً من بين اللاجئين، رغم أنهم لا يملكون أرقاماً وطنية ولا ينطبق عليهم قانون المواطنة ، ولكن يمكنهم الحصول على بعض الحقوق الإنسانية كالصحة والتعليم وعدد من الوظائف، ومنهم من لا يحمل الجنسية الأردنية ويُعرفون بأبناء غزَّة، ومنهم من يأخذ رقماً وطنياً، ويُعترف به كمواطن أردني من الدرجة الثانية، وهم بكل الأحوال أفضل حالاً من غيرهم تحت رعاية الحكومة الأردنية، ورغم ذلك يشكّلون حرجاً كبيراً للحكومة الأردنية.
أما بالنسبة للاجئي لبنان وسوريا، وهم الأسوأ حظاً على الإطلاق، إذ تبلغ نسبة اللاجئين في سوريا 10.5% من مجموع اللاجئين المُسجّلين لدى الأونروا، وبلغت نسبة اللاجئين في لبنان 9.1% من مجموع اللاجئين المُسجّلين لدى الأونروا، وهم موزّعون في عدد من المخيمات.
ففي لبنان يعيش اللاجئون أسوأ ظروف الحرمان منذ بناء أول حجر للمخيمات الفلسطينية في لبنان، مع مرورهم بالمجازر التي حدثت بحقهم، وانتهاء بحصار الدولة اللبنانية لهم، وما يُفرض عليهم من قوانين صارِمة لا تحقّق أدنى مستويات الحياة للإنسان الفلسطيني، ويحرم فلسطينو لبنان من العمل في 60 وظيفة منها (الطب، المحاماة، الهندسة).
كما يحرمون من البناء، أو تجديد للبناء، وتُفرض عليهم رسوم كبيرة على التأمين الصحي، ويعانون من الأُميّة بنسبة كبيرة، وهذا الحرمان من أدنى الحقوق الإنسانية سبب الهجرة القسرية لمعظمهم بحثاً عن حياة أفضل بعيداً عن العيش في لبنان.
وكانت إجراءات الحكومة اللبنانية الأخيرة ضد الفلسطينيين، الشعرة التي قصمت ظهر البعير، بإصدار وزارة العمل اللبنانية قراراً بإغلاق المحال التجارية الخاصة بالفلسطينيين، وهو قرار تزامن مع صفقة القرن وضغط إدارة ترامب على الحكومة اللبنانية بتوطين اللاجئين، وبكل الأحوال فإن إجراءات التضييق التي تتبعها الحكومة اللبنانية بحجّة حق العودة أو رفض التوطين، أمر جعل من حياة اللاجئين الفلسطينيين في لبنان أشبه بالجحيم، مما ساعد على تقليص عددهم.
أمّا بخصوص اللاجئين في سوريا والذين طحنتهم آلة الحرب الأهلية، مما أجبر الكثير منهم على الهجرة القسرية، فمنهم من اتجه إلى دول عربية أُخرى، ومنهم من اتجه إلى دول أوروبا وسجل نفسه كلاجئ سوري، مما يجعل اللاجئين الفلسطينيين يقعون ضحية أوراق اللجوء الجديدة، وبالتالي يحرمهم من أحقيّتهم في العودة، ويعاني اللاجئون الفلسطينيون في كل مكان أسوأ الظروف ما بين البطالة والفقر وعدم امتلاك أوراق ثبوتية بخلاف الوثائق المصرية أو الجواز الأردني المؤقّت وازدواجية الجنسية.
وأيضاً يعاني اللاجئون من عدم حرية التنقل وحرية السفر والإقامة ويعاملون أسوأ المعاملات بالحرمان في مُعظم دول الوطن العربي وتحديداً المخيمات الفلسطينية سواء في الخارج أو الداخل المحتل. والسؤال المطروح الآن حقيقة هل يمكن إعادة بلورة أوراق اللاجئين عربياً لدعم القضية الفلسطينية بدلاً من الوقوع في فخّ الإدارة الأميركية المُطالِب بالتوطين للفلسطينيين في مكان لجوئهم؟.
ويضعنا ذلك أمام خيار التوفيق بين وجود اللاجئين في الوطن العربي من جهة وبين حق العودة ورفض التوطين من جهة أُخرى، كتصوّر جديد يدعم القضية الفلسطينية.
وبالعودة إلى ما سبق يمكن من وجهة نظري تصوّر ما يلي:
لا بد من تمييز الحكومات العربية بين حق العودة ورفض التوطين من جهة وبين حقوق اللاجئين الإنسانية من جهة ثانية، ولا يعني بالضرورة أن إعطاء اللاجئ حقوقاً مدنية قد تجعل منه مستوطناً جديداً في الوطن العربي وإن عملية ابتزاز اللاجئين بحجّة التوطين هي الأسوأ في التاريخ الفلسطيني، وترك اللاجئ الفلسطيني من دون حماية بقرار من الجامعة العربية جعل منه مجرماً في الوطن العربي ، يحرمه من أدنى الحقوق الإنسانية في بعض الدول العربية.
رؤية الأميركيين الجديدة لقضية اللاجئين على أنها الأساس فقط من مجموع الثوابت الفلسطينية، تهدف إلى تجزئة الملف السياسي الفلسطيني لسهولة السيطرة عليه، بإقصاء إحدى الثوابت الفلسطينية، ورغم أن مقترحات ترامب وإدارته تسبّب إحراجاً للدول العربية، إلا أنها تبدو وكأنها الأنسب دولياً لحل أزمة اللاجئين نهائياً، وإن كان التوطين جزءاً من المخطط الأميركي الإسرائيلي فالجميع يعلم تعقيدات القضية الفلسطينية، وعلى الجميع استغلال الموقف السياسي بدلاً من الرفض والجدل حول التوطين من عدمه.
عدم إعطاء اللاجئ الحقوق المدنية ، أو أوراق ثبوتية تضمن له الحق المدني ، جعل اللاجئ الفلسطيني يفقد حقوقه الإنسانية، وإن بعض الحكومات العربية استغلّت مصطلح "رفض التوطين" بشكل أسوأ مما يتصوّره اللاجئون، ولم يكن هذا المصطلح يوماً ما يدعم القضية الفلسطينية فقد أصبح مصطلح "رفض التوطين"، حقاً يُراد به باطل، وسخافة سياسية.
الحقيقة الموجعة أن نعيش في دائرة المفاهيم والمصطلحات، بتكذيب ورفض ما هو واقع.
يجب على الحكومات العربية احترام حقوق اللاجئ الفلسطيني ، لحين الوصول للحل النهائي، تحت أي بند كان، أو أي مفهوم كان، سواء توطين، أو تحسين أوضاع اللاجئين، ومهما كانت التسميه فإن هذا لا يعطي حجّة لبعض الدول العربية بحرمان اللاجئين من الحقوق المدنية، وعليه لا يحتاج الأمر إلى كل هذا الصَخب والسَخط العربي على قضية التوطين للتهرّب من إعطاء الحقوق الإنسانية.
على جامعة الدول العربية أن تتّخذ قراراً واضحاً تجاه قضية اللاجئين يحمي حقوقهم ، فهي تعترف بكل الحقوق الفلسطينية وتطالب بها، وعليها أن تأخذ دوراً فاعلاً في القضايا التي تَمُس القضية الفلسطينية، حتى ولو كان الطرح بأن تتبنّى جامعة الدول العربية إصدار وثائق أو أوراق ثبوتية مؤقتة للاجئين الفلسطينيين، أو تُرغم جميع الدول العربية بالاعتراف باللاجئين الفلسطينيين كمواطنين يتمتّعون بكافة الحقوق في دول اللجوء، ولن يسبّب هذا كارثة على المجتمعات العربية، أو يُهدّد أمنها القومي، أو أنه يلغي حق العودة.
وقمّة السذاجة أن ترى لاجئاً عربياً يتمتع بكافة حقوقه في دولة أوروبية، أمام لاجئ فلسطيني يُحرم من الحقوق بحجة "رفض التوطين".
إن قضية التوطين للاجئ الفلسطيني أصبحت الجزء الأكبر والأهم في إعاقة تقدّم الملف السياسي الفلسطيني، بالنسبة للأميركيين، وغيرهم من العرب، وعليه آن الأوان أن تقدّم الحكومات العربية شيئاً لخدمة القضية الفلسطينية،وعلى الحكومات العربية تقديم البدائل لقضية اللاجئين، وذلك بالتوسيط بين ما طرحته الإدارة الأميركية وبين ما يخدم قضية اللاجئين، مما يخرجها من دائرة الإحراج دولياً، بدلاً من تعدّد أشكال الرفض للأطروحات العالمية من دون التفكير بأدنى مستوى لحماية المشروع الفلسطيني.
لا بد من أن يكون هناك جواب عربي واضح لإسلوب التأطير، الذي تستخدمه الإدارة الأميركية في طرح الأفكار، وسذاجة الخيارات التي تطرحها على الحكومات العربية.