الناقلات والسياسة والأخلاق

والأعجب من ذلك كله الموقف الأميركي الذي لا يختلف عن دور الضبع الذي ينتظر انتهاء السِباع من أكل الفريسة لينال بعض فتاتها.. ولذلك كان فَرِحًا جداً باحتجاز البريطانيين للناقلة الإيرانية.. ثم سرعان ما تحوَّل فرحه ألماً وإحباطاً وكآبة بعد تحريرها.

الناقلة البريطانية "stena bulk" التي احتجزتها ايران في مضيق هرمز

تابع العالم جميعاً ما يمكن تسميته [حرب الناقلات] بين بريطانيا ومَن يُساندها ويؤيِّدها ممَن يسمّون أنفسهم العالم الحر، ويتغنّون بقِيَم الحرية والأخوّة والمساواة، وبين إيران ومَن يُسانِدها من محور المقاومة، والذين يعتبرهم أعداؤهم محوراً للشر والعنف والتطرّف والإرهاب.

لكن حرب الناقلات التي أخذت حيِّزاً مُعتبراً من وسائل الإعلام الشرقية والغربية، كشفت الكثير من الحقائق حول مدى مصداقية تلك القِيَم التي يتغنّى بها ذلك الفريق، وينسبها لنفسه، وينسب لغيره كل أنواع الظلم والاستبداد والشر.

وأول تلك القِيَم التي أسقطتها حرب الناقلات قيمة الحرية، واحترام الشعوب لاستقلال بعضها بعضاً؛ فمع أن عشرات بل مئات بل آلاف الناقلات مرّت على مضيق هرمز الملاصِق لإيران، ومع ذلك، ولمدّة أربعين سنة لم تشكُ ناقلة واحدة من اعتداء الإيرانيين عليها، بخلاف البريطانيين الذين راحوا يحتجزون ناقلة تبعُد عنهم مئات الكيلومترات، وبحجَّة تطبيق قوانين هم شرَّعوها، ولم يُجمِع عليها القانون الدولي، ولم يُطبِّقها كل مَن شرَّعها.

وهنا يُطرَح التساؤل عن الإرهابي الحقيقي، هل ذلك الذي تمرّ من جنب بحره السفن بكل هدوءٍ وسلامٍ، أم ذلك الذي أعاد إحياء القَرْصَنة من جديد، ليُسقط كل القِيَم التي اتفقت عليها قوانين البر والبحر؟

وثاني تلك القِيَم قيمة الأخوَّة، والتي يتوهَّم البريطانيون والأميركيون ومَن في معسكرهم بأنهم دُعاتها والممثّلون الحقيقيون لها، وفي نفس الوقت يحتجزون ناقلة بدعوى أنها تنقل النفط للشعب السوري، وهم يعلمون أنه شعب مظلوم مُحاصَر، وأن حِصاره وتجويعه لن يضرَّ نظامه، ولا جيشه، وإنما يضرّ المدنيين البُسطاء.

وهذا ما يدلّ على الوَهْم العظيم الذي ينشرونه عبر ما يدَّعون أنه مُساعدات للشعوب المستضعَفة، وهي ليست سوى شِباك لاصطيادها، وأغلال لتقييد حريتها.. وإلا فلو كانوا صادقين مع أنفسهم لبادروا لإعانة الشعب السوري، لا المساهمة في تجويعه.

ولذلك من العَجَب أن يصبح ذلك الذي قَطَعَ آلاف أو عشرات آلاف الأميال في البحر، من أجل أن يوصِل المعونة لشعبٍ مُستضْعَفٍ مُحاصَرٍ قطباً للشر، ومحوراً له، في نفس الوقت الذي يُعتَبر فيه مَن يجوِّع المحرومين، ويمنع وصول الإمدادات لهم صاحِب إنسانية وأخوَّة ورحمة.

وثالث تلك القِيَم المُساواة.. وقد فضحتها إيران عند استيلائها على الناقلة البريطانية بسبب عدم مُراعاتها للقوانين الدولية، وهو إجراء شرعي ومقبول في جميع بحار العالم.. لكن أدعياء المساواة راحوا يتَّهمون إيران بالقَرْصَنة، مع أنهم هم البادِئون بذلك، وهم المحرِّضون لها على المعاملة بالمثل..

وقد كان في إمكان إيران أن تتغاضى عن الأخطاء التي وقعت فيها الناقلة البريطانية، ولا تحتجزها، لكنها لم تفعل، لأنها لو فعلت ذلك، فستعتبره بريطانيا وأميركا رضوخاً وذلَّة، ولذلك كان موقفها موقفاً شهماً نبيلاً شجاعاً.. وفي قمّة قِمَم الأخلاق الرفيعة.

وهكذا، كان في حرب الناقلات التي تتبّعتها وسائل الإعلام الغربية والشرقية دروس أخلاقية كثيرة، تُبيِّن الفرق بين السياسة التي تنتهجها إيران ومَن معها من محور المقاومة، وهي سياسة تنبع من الأخلاق وتعتبرها، ولا تتصرَّف أيّ تصرّف خارجها.. وبين تلك السياسة التي مارستها بريطانيا وأميركا، وهي السياسة البراغماتية التي لا تعترف بالأخلاق، ولا تؤمن بها، ولذلك تتجبَّر وتتكبَّر وتتسلَّط، لكنها إن واجهت قوّة وشجاعة وندّية، راحت تخضع وتذلّ وتستكين.

والأعجب من ذلك كله الموقف الأميركي الذي لا يختلف عن دور الضبع الذي ينتظر انتهاء السِباع من أكل الفريسة لينال بعض فتاتها.. ولذلك كان فَرِحًا جداً باحتجاز البريطانيين للناقلة الإيرانية.. ثم سرعان ما تحوَّل فرحه ألماً وإحباطاً وكآبة بعد تحريرها.. ثم سُرعان ما تحوَّل إلى مُتهوّرٍ وطائشٍ ومُراهِقٍ يستعمل كل الوسائل لإلحاق الأذى بالناقلة.. فكشف بذلك كله عن أخلاقه وأخلاق السياسة الأميركية، وكونها حقيقة محوراً وقطباً للشر والشيطنة بكل معانيها.