الأزمة الاقتصادية في السودان

يشهدُ الشارعُ السوداني منذ ديسمبر (كانون الأول) الماضي حركة احتجاجيّة واسعة ضد نظام الرئيس البشير الذي وصل إلى السلطة منذ 30 سنة، وانتشرت التظاهرات في عدّة مناطق سودانية أبرزها العاصمة الخرطوم، ولعلّ أهم مظاهرها هو تصدّر الطبقة العُمالية للحراك السياسي وتقدّمها الصفوف، إذ تصدَّر تنظيم عمالي يُدعى «تجمّع المهنيين السودانيين» الاحتجاجات من خلال مواقفه وبياناته ودعواته إلى مواصلة التظاهرات من أجل الضغط على النظام السوداني.

فقد ترأّس البشير حكومات فاسِدة ابتلعت موارِد السودان، وفي الوقتِ ذاته تركت الشعبَ السوداني في حالٍ بائِسة، وأدَّت إلى انقسام السودان، وخسارته أكثر من 75 بالمئة من احتياطاته النفطية، وثُلث أراضيه، وانهيار اقتصاده وعملته الرسمية، ووقوفه على حافّة التفكّك.
هذا ولم يكن خروج السودانيين في البدابة في 19 ديسمبر (كانون الأول) 2018، هدفه المُعلَن هو اقتلاع نظام البشير، ولكن السبب الرئيس الذي اندلعت لأجله الاحتجاجات كان المُطالبة بتوفير الخبز، ثم توسَّعت المطالب بعد ذلك إلى رحيل النظام، وهو ما يوضح أن الاقتصاد في الأساس هو المُحرِّك الرئيس للثورة في البلاد، حيث يبدو الوضع الاقتصادي الحالي في السودان في غاية الصعوبة ، والخروج من هذه الأزمة لا يتوقّف على التخلّص من النظام فقط، ولكن الأمر يحتاج إلى إصلاحٍ حقيقي واستقرارٍ سياسي يُساعِد على إعادة الاقتصاد إلى المسار الصحيح.
يواجه السودان الآن مجموعة من التحديات الكبيرة والتي من المُمكن أن تُعكِّر صفو فرحة السودانيين بثورتهم، وأبرز هذه التحديات تهيئة البيئة الاقتصادية وضمان توفير السِلع الاستهلاكية للمواطنين، وذلك كإجراءاتٍ أوليةٍ في طريق إعادة الاستقرار للاقتصاد، كما أن هناك عدَّة مُشكلات على النظام الجديد أن يتعامل معها على وجه السرعة حتى لا يتعرَّض الاقتصاد السوداني لانهيارٍ وركودٍ كبيرين، حيث يُعدّ ملف الديون المُتعثّرة أكثر الملفات جدلاً من بين الملفات الاقتصادية في السودان، إذ أن البلاد تخلَّفت عن سَداد ديونها منذ وقتٍ طويل، حيث أشارت بيانات صندوق النقد الدولي إلى أن الدَين العام الخارجي بلغ حوالى 51 مليار دولار قبل سنوات قليلة، وهو ما يُقدَّر بنحو 88% من الناتِج المحلي الإجمالي، فما بالك اليوم وفي ظلّ هذه الظروف الصعبة، فالسودان بات أمام خيارين، إما السَداد أو التفاوض للحصول على الإعفاء، ولا شكّ أن استمرار بقاء الوضع على حاله سيجعل من السودان غير قادِر على الوصول مُجدَّداً إلى الأسواق الدولية، وهو الأمر الذي يحتاجه السودان كثيراً للخروج من الأزمة الحالية.
هذا ويمكن القول إن ارتفاع الأسعار هو أبرز الملامِح الاقتصادية للبلاد حالياً، فعند الحديث عن الاقتصاد السوداني سيكون التضخّم الكبير الذي تشهده البلاد أول ما سيتبادر إلى الذِهْن، وبحسب (الجهاز المركزي للإحصاء السوداني) فإن سبب هذا التضخّم هو ارتفاع أسعار مجموعة الأغذية والمشروبات، والتي تشمل اللحوم والخبز واللبن، ولا خيار أمام النظام الجديد سوى السيطرة على مُعدَّلات التضخّم الحقيقية حتى يشعر المواطِن السوداني بشيءٍ من التحسّن.
لكن التضخّم في السودان لا يرتبط بحركة أسعار السِلَع والخدمات فقط، وهو ما ينقلنا إلى الحديث حول قيمة العملة السودانية وسياسية طَبْع النقود، وهي قضية جوهرية ساهمت في تدهور الأوضاع الاقتصادية، ولأن السوق الرسمي لا يُعبِّر عن السعر الحقيقي للجنيه السوداني، فقد واصل سعر صرف الجنيه السوداني هبوطه أمام الدولار في السوق الموازية (السوداء)، وبات هناك سعران للنقد والشيكات بعد أن أصدر البشير في مارس (آذار) من السنة الماضية أمر طوارئ يُحظّر تخزين العملة الوطنية والمُضارَبة فيها، بحيث لا يُسمَح للأفراد بالاحتفاظ بأكثر من مليون جنيه (تُعادِل 21 ألف دولار) خارج البنوك.
كما ويعيش السودان أزمة سيولة خانِقة، وحاولت الحكومة السابقة السيطرة على الوضع من خلال إصدار عملات ورَقية جديدة من فئة 50 جنيهاً، أعقبها طباعة فئة 100 ثم 200 و500 جنيه، وكل هذه المحاولات تسبَّبت في مزيدٍ من انهيار العملة وتفاقُم التضخّم، وفي أكتوبر (تشرين الأول) الماضي أعلن السودان أنه طَبَعَ كمياتٍ من الأوراق النقدية في الخارج لمُعالجة أزمة السيولة التي تُعانيها المصارف السودانية، لكن الاستمرار في الطَبْع من دون إنتاجٍ حقيقي لن يزيد العملة إلا تراجعاً ولن يحلَّ الأزمة.
وهكذا أصبح حلّ الأزمات الاقتصادية في السودان حالياً يحتاج إلى عصا سحرية، وإلى سنواتٍ حتى نجد تطوّراً ملموساً على أرض الواقع، حيث يحتاج السودان إلى برنامج إصلاحٍ اقتصادي عاجلٍ يتضمَّن مزيداً من إجراءات التقشّف، وذلك بهدف التركيز على الاستقرار الاقتصادي لخَفْضِ متوسّط التضخّم، وتحقيق استقرار في سعر صرف الجنيه، وتحقيق مُعدَّل نمو حقيقي في الناتِج المحلي الإجمالي ومُعالجة أزمة السيولة.
البرنامج يجب أن يشمل أيضاً إلغاء جميع الإعفاءات الضريبية باستثناء مدخلات الإنتاج، وتأسيس بورصة سلعيّة لتداول الذهب والعملات، وتقليل المصاريف الحكومية من سياراتٍ وسفرياتٍ وإعفاءاتٍ للحدّ الأدنى، لكن يبقى الاستقرار السياسي هو الشرط الأول لأيّ توجّه نحو الإصلاح، ناهيك عن أن أهم ما تحتاج إليه البلاد حالياً هو الاستثمارات الأجنبية، والمناخ الحالي غير مُناسِب على الإطلاق لعودة الاستثمارات التي تتنافس عليها ولايات البلاد.
هذا والجدير بالذِكر أيضاً أنه من المُتوقَّع أن يتلقَّى السودان مُساعداتٍ من عدَّةِ دولٍ عربيةٍ وخليجيةٍ، وهي المُساعدات التي قد تحرِّك المياه الراكِدة لكنها في النهاية تظلّ مُسكّنات فقط، وليست حلولاً جذرية للمشاكل الاقتصادية الهيكلية التي يُعاني منها السودان، كما أن الاستفادة من هذه المُساعدات تتوقَّف على حُسن تعامُل الحكومة واستغلال هذه الأموال بالشكل الأمثل.