يوسف الذي مضى مع هواء بحر حيفا
هو يوسف الذي لم يعد من اليمّ إلى يعقوب بلاده. يوسف الذي نذر نفسه شعلة، علّه يضيء في مسار العودة.
أذكره بقامته الفارعة وهندامه المرتب، يرتدي قميصه الأبيض مع سترته الخضراء، كشجر زيتون فلسطين. يمشي بانتظام جيش مؤلل، كل خطوة في مكانها. لا يعرف التعب ولا الكسل، ينهض مع نوارس البحر المهاجرة إلى شاطئ حيفا. يقوده الشوق مع الأمواج لحيفا، فيذرف نبع مقل علّه يصل نهر الأردن. يدخل غرفة الصفّ، ويبدأ بنضاله في ملحمة العلم، بين قواعد اللغة العربية الأم واللغة الانجليزية المنتدبة. يقاوم.. يريد أن يقاوم، اللغة باللغة، والقول بالقول والدم بالدم.
يلتفت إلى جمع تلاميذه، يقول لهم إن العرب تخاذلوا فيما يتقدم الصهاينة ويتطورون. يمهّد إليهم حسّ الثورة، "لا تتكاسلوا، لا تتخاذلوا". كنا مبعثرين بغير نظام يقول، "وهم أتوا بنظام ودقة ليبدلوا الدولة بدولة، وجاء من يقف منا معهم، أما أنا فلا أبايعهم، ولن أبايع سوى صوت الرصاص من فوهات بنادق النبلاء والشرفاء". يغوص في الأدب، في الشعر وفي القواعد، يفيض بكل ما لديه، بكل ترسانة علمه، يريد تجهيز جيش مثقفين لأن له أمل بجيل يمحو نكبات جيل هرم. يحدّثنا عن أيام الكشافة، يعزف ليأخذه اللحن إلى ميناء بحر حيفا. "موطني.. موطني"، وتذرف عيناه مع اللحن حنينًا غائراً يفتح كوّة جرح لا يلتئم، "موطني.. موطني، كم أبعدتني" كأنها تقول مقلتاه.
هو يوسف* الذي لم يعد من اليمّ إلى يعقوب بلاده. يوسف الذي نذر نفسه شعلة، علّه يضيء في مسار العودة. يبوح لنا بتجربة عمر، من جامعة الانتداب في حيفا، كيف كان يغرف الكلمة مع اللقمة وإلى جانبه قاموسه الذي يتكئ عليه لينهل من لغة الانتداب فيقاومه. يوسف أمضى عمره في التعليم، قاوم بالقلم الذي خطّ به من أسى روحه ولوعتها وغربتها، وشارك في كل انتفاضة وثورة تهفو إلى ثرى حيفا. كان موسوعة متجولة، من التاريخ إلى الحضارة والشعر والأدب والفكر. لطالما أمدّنا ببعض من ثقافته أثناء صفوف الدراسة، كنا ما زلنا يافعين لم نبلغ الحلم، لكنه كان يرى فينا كل الحلم.
لم يتوان يوسف يوماً عن نضاله ولم يوقفه شيء. والآن في غيابه لم يتوانَ عن الحضور. في كل مرة أسمع نشيد "موطني"، فيطلع يوسف إلى البال، وعندما أسمع "آه يا زين"، أتذكر يوسف يدندنها، وعندما أسمع بحيفا في قصيدة:
"يا كرمل الروح إنه وحيد
إجلب له هواء بحر حيفا
أحضر له نسيم بحر يافا "
وكأني بها تُغنّى ليوسف. يوسف مضى، في رحلة أزلية، لم يصل حيفا، ولكنه أوصلنا كلنا إلى حيفا، وزرع فينا بعضاً من زيتونها. يوسف كان ولا يزال معلمي، منذ نعومة أظافري، أتذكره دائماً كلما ذكرت فلسطين. المعلم الذي أورثني كأجدادي حبها.
اليوم يا يوسف، وأنت في مرقدك الأزلي، آمل أنك لا تزال تنتظر، وتتابع مترقباً، لم نعد مهزومين يا يوسف، لقد قام كما قلت من قبل، قام السيد حسن نصر الله بما لم يقم به العرب، انظر إليه اليوم يربّت على خريطة فلسطين كما تربّت الأم الحنون. قالها مرة يا يوسف إنه سيصلي في القدس، و أنا اقول لك إن وصلنا القدس، سأُعرّج على حيفا، وسأزرع زيتونة باسمك يصل إليها هواء بحر حيفا.
*ولد يوسف القط في حيفا سنة 1930، ولجأ إلى طرابلس الشام في سنة 1948. وفي سنة 1949 التقى أهله الذين حط بهم الرحال في قرية البرج الشمالي في جنوب لبنان. وفي هذه القرية وغيرها في مدارس مخيم الرشيدية وصور راح يُعلِّم اللغة الانكليزية لأبنائها.