واشنطن: آن أوان إنهاء استقرار لبنان الأمني
اليوم، تتزاحم المعطيات التي تبيّن دخول الولايات المتحدة، خلافاً لكل ما يشاع، على خطّ تفجير الوضع الأمني في لبنان.
خلال السنوات الماضية، كان يمكن للبنانيِّ التباهي بين جيرانه بمحافظته على استقرار بلده الأمنيّ، في ظل الانهيارات الأمنية الكبيرة التي شهدتها المنطقة. ومع ذلك، فإن قلة قليلة من اللبنانيين كانت تتوقف بجدية عند أهمية النجاة من النيران المحيطة بنا، مع اندفاعة التكفيريين. قلة قليلة تتخيّل ما كان سيحدث لو لم يبادر حزب الله إلى تشييد سُور القْصَيْر العظيم بتكلفة بشرية باهظة ومحزنة، من أجل حماية لبنان واللبنانيين من هذا المدّ الذي دمَّر سوريا والعراق، في وقت كانت قوى 14 آذار تستدرج الفوضى إلى لبنان، سواء عبر التعبئة "المستقبلية" والتحريض المذهبي اللذين دفعا كثيراً من الشبّان في مناطق نفوذ تيار المستقبل إلى الالتحاق بالمجموعات التكفيرية في لبنان وسوريا والعراق، أو عبر حَجّ الأمانة العامة لقوى 14 آذار (بمشاركة كثيفة من القوات اللبنانية) إلى الجرد البقاعيّ من أجل إنعاش التكفيريين ورفع معنوياتهم، أو عبر تمويل عدة دول خليجية عشراتِ المدارس التكفيرية لاصطياد الأطفال والمراهقين، الذين يمكن تضليلهم، أو عبر تحويل هذه القوى مهرجاناتها السنوية، سواء في ذكرى حل حزب القوات اللبنانية، أو في ذكرى 14 آذار، إلى احتفالات خاصة بما أطلقوا عليه اسم "الثورة السورية"، من وسط بيروت، لا من التلال الحدودية، كما فعل حزب الله، من دون تناسي حليب النائب المستقبلي السابق عقاب صقر وحفاضاته وكلّ ما عبّر عنه الإعلاميون والإعلاميات في مواقع التواصل الاجتماعي، من غرام بوسخ جبهة "النصرة"، مع العلم بأن تخيُّل رهانات بعض الناشطين والمجموعات والإعلاميين على "النصرة"، وانغماسهم في "الجبهة"، بعد تمركزهم في تركيا، يسمح بتفهّم نكبتهم والاحتمال الدائم بأن يقتلهم سُمُّهم إذا بلعوا ريقهم بعد ذكر حزب الله.
حين يقول حزب الله إنه منع تمدُّد المشروع التكفيريّ في لبنان عبر كل تلك العملية الاستباقية، فهذا يعني أنه منع مشروع الفوضى الأمنية. فالمشروع التكفيري لم يكن مشروع دولة حرة سيدة مستقلة، بالنسبة إلى الولايات المتحدة، وإنما مشروع فوضى متنقّلة، تدمّر كل أساسات الدولة في كل من سوريا والعراق، ومواردهما الأساسية، من مياه وكهرباء ونفط ومؤسسات رسمية، وتستنزف حزب الله.
ما سبق ليس تفصيلاً: إذا كانت الولايات المتحدة حريصة فعلاً على استقرار لبنان، كما تقول في تسريباتها وبياناتها، فكيف يُفَسَّر إذاً دعمُها المطلق لمن دعموا تسلُّل الفوضى التكفيرية وتمدُّدَها؟
إذا كانت حريصة فعلاً على الاستقرار، فلماذا إذاً كل هذا الاستثمار في التحريض، مذهبياً وإعلامياً وسياسياً؟ هذا كله ليس من أجل مقعد نيابيّ، بالزائد أو بالناقص. لو كان همُّ الولايات المتحدة مقعداً نيابياً فعلاً، لَوَزَّعت مبلغ المليار دولار، الذي تُنفِقه سنوياً في لبنان، على عشرة نواب، واشترت أحلى عشرة مقاعد نيابية، من دون أيّ جهد يذكر.
عملياً، لا المقاعد النيابية تهم الولايات المتحدة، ولا رفاهية اللبنانيين. ولا أحد في الخارجية الأميركية يهتمّ بالقطاع الزراعي في لبنان، أو بالرياضة الجبلية والسياحة البيئية. الهم الوحيد هو إضعاف حزب الله، أو إرباكه. إذا كان الاستقرار يحقّق ذلك، فإن الولايات المتحدة تؤيد الاستقرار. وإذا كانت الفوضى تحقّق ذلك فإن السياسة الأميركية تؤيد الفوضى.
وهنا، لا بد من التذكير بأن الأميركيين كانوا يقولون إن القطاع المصرفي اللبنانيّ يمثّل أحد أهم الاستثمارات الأميركية، بحيث لا يمكن للولايات المتحدة أن تسمح بسقوطه. وإذا بها تطلب من حاكم مصرف لبنان رياض سلامة أن يُسقطه، ظناً منها أن حرمان الناس من ودائعهم سيُضاعف نقمتهم في اتجاه واحد (العهد وحزب الله). وفي السياق نفسه، كان يقال إن قوى 14 آذار هي قرّة عين الأميركيين، بحيث لا يمكن أن تسقط شعرة من رؤوسهم من دون أن تستنفر الأساطيل الأميركية الجوية لنجدتهم، وإذا بهم يسقطون مجتمعِين ويتفرَّقون ويحقدون على بعضهم البعض من دون أن يرف جفن الولايات المتحدة.
واليوم، تتزاحم المعطيات التي تبيّن دخول الولايات المتحدة، خلافاً لكل ما يشاع، على خطّ تفجير الوضع الأمني في لبنان، مع العلم بأن إنهاء الاستقرار الأمني، كما تؤكد التجارب المحيطة، لا يحتاج إلى تسليح ضخم وإنشاء ميليشيات منظَّمة، كما يتخيَّل البعض، وإنما هو عبارة عن تخريب متواصل وممنهَج. ويمكن، في هذا السياق، التوقف عند خمس ملاحظات حتى الآن:
1. اتخاذ حاكم مصرف لبنان رياض سلامة قرارَ رفع الدعم، وإبلاغه إلى المعنيين من دون تنسيق مع الوزارات المعنية بالمؤسسات الأمنية لإيجاد بدائل سريعة لعناصر الأجهزة الأمنية، حتى يتمكّن هؤلاء من مواصلة الالتحاق بثُكَنهم ومراكز خدمتهم. وعلى الرَّغم من التسريبات عن صناديق جديدة في المؤسسات الأمنية لتلقي الدعم الخارجي، تحت ستار وهميّ من المغتربين وغيرهم، وعلى الرغم من التمثيلية التي تستعدّ الولايات المتحدة لتنفيذها، لجهة الظهور في مظهر الداعم للجيش، فإن وضع العسكريين المستجد البائس لا يزال على حاله. والعدد الأكبر من هؤلاء لن يستطيع ملء خزّان سيارته بالوقود للوصول إلى مكان عمله، مع كل ما يستتبعه ذلك من نقص في العديد، وفي القدرة على ضبط الأمن ومكافحة الجريمة. وحتى من يتمكّن من الوصول، فإنه يجد نفسه أمام أَجْر زهيد جداً، من دون أيّ حافز على تعريض حياته للخطر، بالإضافة إلى أن مؤسسات أمنية كبيرة، بعضها أميركيّ، تُقدِّم مغريات مهمة جداً للضباط، وخصوصاً في الاستخبارات الميدانية والتكنولوجية، للانضمام إليها، بحيث يُفترض أن يحدث في الأمن أمرٌ مماثلٌ لما حدث في الاستشفاء والهندسة والمحاماة والتعليم.
2. الفلتان الأمنيّ المطلَق في مناطق نفوذ تيار المستقبل في الشمال، بإشراف مباشِر من المدير العام لقوى الأمن الداخلي عماد عثمان، بحيث كأنه لا يكفي العقاب الجماعي، والمتمثّل بقطع كامل للكهرباء والمولدات وأغلبية المواد الغذائية والدواء، بالإضافة إلى التخزين والتهريب، وإنما تعمد مجموعات معروفة الانتماء إلى قطع الطرقات، على نحو مبرمَج، من أجل منع الخروج من طرابلس والمنية والضنية وعكار، والدخول إليها.
يحدث ذلك كله في موازاة تفلُّت أمني يُعَبَّر عنه بالإطلاق اليومي للنار والخطف و"التشليح"، بينما المدير العام لقوى الأمن الداخلي، عماد عثمان، المسؤول الأول والأخير عن إيقاف ما يحدث، لا يحرّك ساكناً، مع وجوب التذكير بأن عثمان، المحسوب على تيار المستقبل، يحتلّ مكانة استثنائية لدى السفارة الأميركية، التي تعتبر قوى الأمن الداخلي واحداً من أهم استثماراتها في لبنان. وهي، بالمناسبة، تدّعي في بياناتها دعم الجيش دائماً، لكنها في الواقع تدعم الجيش ببعض التجهيزات الروتينية، بينما تذهب التجهيزات الاستخبارية الحديثة والبرامج المفيدة إلى قوى الأمن الداخلي. وبالتالي، لو كانت السفارة الأميركية مهتمة بمنع الانفجار الشماليّ، والذي ستكون له تداعياته في عدة مناطق أخرى، لطلبت من عثمان أن يفعل شيئاً. لكنّ الواضح أن كل ما يجري في الشمال إنما يتمّ عن سابق تصوُّر وتصميم.
3. المشاكل اليومية المتفرّقة في محطات الوَقود، والتي يمكن أن تتطوّر، من سياقها الفردي إلى سياق مذهبي أو عشائري أو مناطقي، كما كاد يحدث أكثر من مرة، من دون أن تبادر القوى الأمنية (التي تفاخر الولايات المتحدة بتأثيرها الكبير في قراراتها) إلى اتخاذ أيّ قرار جِدّي لتنظيم السير، وتعبئة الوَقود، وإنهاء المهزلة التي تجري. وهنا أيضاً، لا يحدث كل ما نشهده في الطرقات صدفةً، وإنما عن سابق تصوُّر وتصميم.
4. الانتقال من مرحلة التعبئة والتحريض إلى مرحلة الكمائن المباشِرة. ولا يمكن التحديد، في هذا السياق، أيهما كان أخطر: كمين خلدة، في كل ما استوجبه من ضبط هائل للنَّفْس، أو ما ثبت في التحقيقات أنه كان كميناً للمقاومين في حاصبيا، مع ما يبيّنه ذلك من وجود مجموعات، على امتداد الخريطة اللبنانية، مستعدة للمخاطرة بنفسها واستقرار مجتمعها لتنفيذ أجندات خارجية. ولا شك في أن هاتين المجموعتين ما كانتا لتُقْدِما على مغامرة من هذا النوع لولا تطميناتٌ نوعية، على مستويات عالية جداً.
5. اختراع عراقيل وهمية لعدم تشكيل الحكومة: ساعة بحُجة هذه الحقيبة أو تلك، وساعة بحُجة مَن سيتولى هذه الحقيبة أو تلك، في ظل قول الأميركيين شيئاً علانية، وعكسَه لرئيس الحكومة المكلَّف نجيب ميقاتي. والواضح هنا أن مَن يمنع حكومة حسان دياب من الانعقاد، على الرغم من إلحاح رئيس الجمهورية والأمين العام لحزب الله، هو نفسه مَن يمنع تشكيل الحكومة، بسبب رغبته في تمدُّد الفراغ في جميع الاتجاهات.
الولايات المتحدة رأت أن الفريق الأقل تضرراً من الانهيار السياسي (الذي دفع ثمنه، على نحو رئيسي، تيار المستقبل) هو حزب الله، ومع ذلك أكملت فيه. فـ"الأقل ضرراً" يعني أنه متضرر، وهذا يفيد الولايات المتحدة، بمعزل عن الثمن المأساوي الذي يُضطر حلفاؤها وناسهم إلى دفعه. وهي رأت أن الفريق الأقل تضرراً من الانهيار، اقتصادياً ومالياً ومعيشياً، هو حزب الله، ومع ذلك أكملت فيه. وأيضاً، وفق المعادلة السابقة. وهي، بلا شكّ، تعلم بأن حزب الله سيكون الفريق الأقل تضرراً من الانهيار الأمني، ومع ذلك يمكن أن تكمل فيه. فهي لا تحسب أيَّ حساب للضرر الذي يمكن أن يصيب حلفاءها. يمكن أن يخسر هؤلاء مئة نقطة شرط أن يخسر حزب الله نقطة.
كل ما تريده الإدارة الديمقراطية اليوم من لبنان هو إلحاق أكبر ضرر ممكن بحزب الله، وهي لا تسأل أبداً أو تهتم بالمصير أو المستقبل لأي فريق سياسي آخر أو جمعية أو مواطن لبنان. التخريب السياسي دمَّر حلفاءها. صحيح. لكنه ألحق ضرراً مقابلاً محدوداً بحزب الله، ويسبّب له إرباكاً داخلياً. هذا هو المطلوب. والمطلوب ضرر إضافي بفعل التخريب، اقتصادياً ومعيشياً، حتى لو كان أبناء طرابلس والكورة وزعرتا وبشري وعكار وكسروان والمتن وزحلة سيدفعون ثمنه الأكبر. وإذا كان التخريب الأمني سيضيف إلى الضَّرَرين السابقين ضرراً إضافياً، فألف أهلاً وسهلاً، أياً تَكُن فاتورته، تقول سياسة الولايات المتحدة في منطقتنا.