جولة ماكرون العراقيَّة ورؤية البطريرك التشاؤميّة!
تحرّك ماكرون نحو العراق بصورة لافتة لا يخرج عن سياق تكريس مشاريع التطبيع عبر البوابة العراقية التي يعول عليها ساسة "تل أبيب" وواشنطن كثيراً، علماً أنه كان قد زار العراق للمرة الأولى في مثل هذه الأيام من العام الماضي.
"إنّ الخطأ في انتظار الخلاص وحلّ المشاكل من الغرب كانت له آثار مدمّرة حتى عندما يتعلَّق الأمر على وجه التحديد بالجماعات المسيحية في الشرق الأوسط. إن الغرب الذي يدافع عن المسيحيين في مناطق أخرى من العالم، هو أسطورة تسبَّبت بالكثير من الضّرر، وبدت بعض لحظات زيارة ماكرون للموصل بمثابة إحياء آخر لتلك الأسطورة".
هذا بعض مما قاله زعيم طائفة الكلدان الكاثوليك في العراق والعالم، البطريرك لويس روفائيل ساكو، تعليقاً على زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للعراق، والتي كان من بين فقراتها التجوّل في مناطق محافظة نينوى، وتفقّد مساجدها وكنائسها، وإطلاق الوعود البراقة بدعم العراق بمختلف مكوّناته، ولا سيَّما المسيحيين، ومساعدته في مجالات الأمن والإعمار والخدمات وتكريس وتعزيز التعايش السلمي بعد النجاح في دحر الإرهاب.
تقييم البطريرك ساكو وردود أفعاله حيال زيارة ماكرون يعدّان جزءاً من ردود أفعال ومواقف عراقية صبّت في الاتجاه ذاته، وعبّرت عن الجوهر والمضمون نفسهما. من جانب آخر، عبرت تصريحات ساكو عن شعور كبير بالإحباط لدى المكوّن المسيحي في العراق، وربما في غيره، إزاء التعاطي الغربي مع معاناة أبناء ذلك المكون، الذين يرى الكثيرون منهم أنَّ قدراً غير قليل منها تتحمَّله الحكومات والدول الغربية في حقباتها ومراحلها المختلفة.
قد تعكس زيارة ماكرون الأخيرة للعراق، بتفاصيلها وجزئياتها المتعددة واللافتة، طبيعة النهج والتوجّه الفرنسي الجديد - القديم، فضلاً عن أنها تحمل بين طياتها نزعة ورغبة واضحة في الحصول على مواطئ قدم في مواقع تشهد تنافساً وتدافعاً محموماً بين قوى إقليمية ودولية؛ ذلك التنافس والتدافع الذي تتنوَّع عناوينه وأشكاله ومظاهره وأهدافه وأجنداته.
كانت باريس - وتحديداً الرئيس ماكرون - من أبرز المتحمّسين والمساهمين في عقد مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة في 28 آب/أغسطس الماضي، إذ تمثّل دوره في حثّ عددٍ من الزعماء والجهات الدولية وإقناعهم بالحضور والمشاركة الفاعلة.
فضلاً عن ذلك، إنَّ حضور ماكرون لم يكن حضوراً تشريفياً عادياً، بل كان الشخصية الأبرز في أجواء المؤتمر، وحلقة الوصل في التقريب بين الفرقاء والخصوم. وفي ما بعد، لم يستقلّ طائرته الخاصّة ويغادر بغداد سريعاً، كما فعل الزعماء الآخرون، إنما قرّر أن يزور الإمامين موسى الكاظم ومحمد الجواد (عليهما السلام) في مدينة الكاظمية المقدسة، ومن ثم توجه إلى الموصل، ليقف على أطلال الخراب والدمار الذي خلَّفه تنظيم "داعش" الإرهابي في شوارعها ومنازلها وأسواقها ومساجدها وكنائسها ومدارسها ومستشفياتها ومزارعها، ومن ثم ذهب بعد ذلك إلى أربيل، والتقى كبار القيادات السياسية الكردية.
وفي كلِّ محطة من محطات زيارته، كان ماكرون يدلي بتصريحات أو يطلق إشارات تنطوي على رسائل غير عابرة وغير سطحية؛ فمن الكاظمية المقدسة، أراد أن يشير إلى ثقافة وقيم التّسامح التي تتبنّاها فرنسا وعموم دول العالم الغربي -المسيحي في تعاطيها وتعاملها الإيجابي مع الإسلام والمسلمين، وهي الرّسالة نفسها التي أطلقها من جامع النوري في الموصل، الَّذي أعلن منه زعيم تنظيم "داعش" الإرهابي أبو بكر البغدادي في صيف العام 2014 ما يُسمى بـ"دولة الخلافة الإسلامية"، ومن ثم دمّره التنظيم بعدما أُرغم على تركه في تموز/يوليو من العام 2017.
إنَّ من سمع رسائل التسامح الإيجابية من ماكرون، لا بدَّ من أنه استحضر مسيرة طويلة من السياسات الفرنسية المعادية للمسلمين والمنتهكة لحرياتهم الدينية والشخصية وخصوصياتهم الاجتماعية، ناهيك بالإساءات والتجاوزات المتكررة على رموزهم ومقدساتهم من قبل بعض الأوساط والمحافل الإعلامية والسياسية والفكرية الفرنسية.
ولعلَّ الرسوم الكاريكاتورية المسيئة إلى النبي محمد (ص) التي أعادت نشرها مجلة "شارلي إيبدو" الأسبوعية الساخرة صيف العام الماضي، تعد واحدة من شواهد ودلائل كثيرة على ذلك، ناهيك بأنَّ الرئيس ماكرون أدلى بتصريحات استفزازية للجالية المسلمة في فرنسا بعد مقتل معلّم فرنسي على يد طالب مسلم من أصول شيشانية في شهر تشرين الأول/أكتوبر من العام الماضي، بسبب ترويجه للرسوم المسيئة إلى الرسول واعتبارها تندرج في إطار حرية التعبير عن الرأي، إذ قال في كلمة بمراسيم تأبين المعلم المقتول: "صموئيل باتي قتل لأنَّ الإسلاميين يريدون الاستحواذ على مستقبلنا، ويعرفون أنهم لن يحصلوا على مرادهم بوجود أبطال مطمئني النفس مثله.. ونحن لن نتخلّى عن الرسوم الكاريكاتورية".
وقبل أن يزور القوات الفرنسية المتواجدة في معسكر "غرينير" في إقليم كردستان، أكد ماكرون من الموصل "بقاء القوات الفرنسية في العراق والاستمرار في المساعدة بمكافحة الإرهاب". وكانت تلك إشارة غير طيّبة لا تنسجم مع التوجه السياسي والشعبي العراقي بإنهاء التواجد الأجنبي من أرض البلاد، ولعلَّه تجنّب إطلاق هذا التصريح من بغداد، لأنه كان يدرك ما يمكن أن يثيره من ردود أفعال غاضبة، وبالتالي يعكّر أجواء حراكه السياسي الميداني.
ومن كنيسة "الساعة القديمة" التي يعود تاريخها إلى حوالى ألف عام، والتي لم تسلم أيضاً من تدمير "داعش"، أطلق الرئيس الفرنسي مبادرة "إحياء روح الموصل"، قائلاً في كلمة له من هناك: "نحن هنا للتعبير عن مدى أهمية الموصل وتقديم التقدير لكلِّ الطوائف التي تشكل المجتمع العراقي"، كاشفاً عن نيّة بلاده افتتاح مدرسة وقنصلية فرنسية في المدينة. وأكثر من ذلك، تحدَّث بكلّ صراحة ووضوح، قائلاً: "تهدف فرنسا التي تموّل المدارس المسيحية الناطقة بالفرنسية في المنطقة إلى زيادة المنح المقدمة للمسيحيين في الشرق الأوسط، فضلاً عن الأقليات الأخرى. هذه الرسالة حضارية، لكنَّها جيوسياسية أيضاً، فلن يكون هناك توازن في العراق إذا لم يكن هناك احترام لهذه المجتمعات".
ومن الطّبيعيّ أنَّ أطروحاتٍ ومشاريع من هذا القبيل تثير حفيظة بعض المكونات وريبتها، وربما تؤشر إلى توجهات فرنسية للحضور والتواجد في مساحات لم تكن خاضعة للنفوذ التقليدي الفرنسي خلال حقبة تقاسم منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ومناطق أخرى في آسيا وأفريقيا بين لندن وباريس، وتمهيد الأرضيات لكي تستعيد باريس موقع الزعامة العالمية إلى جانب قوى أخرى، بعد أن كانت قد فقدتها حين وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها في العام 1945، لتتشكَّل خرائط وتتبلور معادلات جديدة لم يكن لباريس فيها تأثير وحضور ملموس.
وخلال ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، سعت فرنسا لاستعادة نفوذها وحضورها عبر التأسيس لمشروع الفرانكوفونية الذي حاولت من خلاله جمع الدول الناطقة باللغة الفرنسية تحت مظلَّتها، في إطار مواجهة مشروع العولمة الأميركية، بيد أنها فشلت في ذلك. والآن، راحت تجرّب وتتوسّل بأدوات ووسائل أخرى في عدة دول، وخصوصاً تلك التي تفتقد الاستقرار السياسي والأمني والاقتصادي المطلوب، مثل لبنان والجزائر وتونس والعراق وغيرها، إلا أنها لم تفلح حتى الآن في تحقيق إنجاز يعتدّ به.
ولعلَّ أحد أسباب فشلها وإخفاقها هو افتقارها إلى الاستقلالية في رسم سياساتها واتخاذ قراراتها وصياغة رؤاها الاستراتيجية، بل والأنكى من ذلك تبعيّتها وخضوعها بصورة غير مباشرة لثلاثة أطراف، هي الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا و"إسرائيل"، ولا سيَّما ما يتعلَّق بتحركها في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وهو ما يكشف سر الاندفاع والحماس الكبيرين لباريس في الدفع بمشروع التطبيع بين الكيان الصهيوني والعالم العربي، ومن ضمنه العراق.
ويرى بعض المراقبين وأصحاب الرأي أنّ تحرّك ماكرون نحو العراق بصورة لافتة لا يخرج عن سياق تكريس مشاريع التطبيع عبر البوابة العراقية التي يعول عليها ساسة "تل أبيب" وواشنطن كثيراً، علماً أن ماكرون كان قد زار العراق للمرة الأولى في مثل هذه الأيام من العام الماضي، وهذا يعني أنه جاء إلى العراق مرتين خلال أقل من عام!
وعودة إلى تصريحات البطريرك ساكو، فقد وضع في واقع الأمر إصبعه على الجرح، حين قال مسترسلاً في حديثه عن زيارة ماكرون: "إنّ كليشيهات الزيارات الَّتي عفا عليها الزمن الآن من قبل القادة الغربيين الذين يذهبون إلى مناطق الأزمات مضلّلة، فهم يقدمون أنفسهم على أنهم يحلّون النزاعات والأوضاع المتدهورة الطويلة الأمد... لقد رأينا العديد من البعثات السياسية والعسكرية الغربية في الشرق الأوسط، ورأينا الكثير من الوعود بالمساعدة.
وفي النهاية، يظلّ كلّ شيء على مستوى الكلمات الجوفاء، إن لم يكن أسوأ. دعونا نفكّر في ما حدث في أفغانستان. لنفكّر في الوعود العديدة التي قُطعت للبنان مؤخراً، وهو لا يزال يعاني أزمة خطيرة للغاية. والحقيقة أن الدول الغربية لا تستطيع فعل أي شيء، وخصوصاً الآن، بعد أن انشغلت جميعاً في حل مشاكلها الاقتصادية وتركيز مواردها في مكافحة الوباء".
إذاً، الأجندات والمشاريع والمصالح الخاصة، والتحديات الاقتصادية والصحية والأمنية الراهنة، وحقائق معادلات القوة القائمة، لا يمكن أن تتيح أو تدفع الأطراف الدولية الكبرى، ومن بينها فرنسا، إلى الاضطلاع بأدوار إيجابية لمصلحة الشعوب، ومنها العراق ولبنان واليمن... ولو كانت ترغب فعلاً في ذلك، لما جعلتها تتعرَّض لكل تلك المشاكل والأزمات والكوارث والويلات التي لا تحلها ولا تحلحلها ولا تعالجها زيارات وجولات استعراضية تتلاعب بالعواطف أكثر مما تلامس العقول.