الأجندات السياسيّة في أزمة الكهرباء العراقيَّة!
من الطبيعي أن هذا التوظيف والاستغلال السياسي السيئ يتداخل مع الفساد المالي والإداري والبيروقراطية الشائكة، ليبدد أي فرص أو إمكانيات للتوصل إلى حلول عملية ناجعة لأزمة الكهرباء العراقية.
في بلد مثل العراق، لم ينعم طيلة تاريخه الحديث والمعاصر بالاستقرار الحقيقي، لا يمكن فصل أيّ مشكلة أو أزمة يمر بها عن الأجندات والحسابات والمصالح السياسية الخارجية أو الداخلية. ولعل ملف الكهرباء، ذلك الملف الحيوي المهم والحساس، ظلَّت تتجاذبه كواليس السياسة وأروقتها ودهاليزها المظلمة، وتستغلّه مختلف الأطراف، إما لتحقيق مكاسب معينة، وإما لتصفية حسابات معينة.
وإذا كانت أزمة كهرباء العراق قد بدأت قبل 30 عاماً، حين أجهزت الولايات المتحدة الأميركية، ومعها حلفاؤها الثلاثون، على البنى التحتية والمنشآت الحيوية العراقية، كجزء من متطلبات أو ذرائع حرب تحرير الكويت من قبضة نظام صدام، فإنَّ صورة اليوم تبدو قاتمة أكثر من أي وقت مضى. وبينما كان مؤملاً أن تنفرج الأزمات، وتتصحَّح المسارات بعد إطاحة نظام صدام في ربيع العام 2003، اختلطت الأوراق كثيراً، وتشابكت الخيوط، وظلّت الأزمات الكبيرة – ولا سيَّما أزمة الكهرباء - تدور في حلقة مفرغة، لتبلغ ذروتها في صيف كل عام.
ولعلَّ الكثيرين في العراق، من شتى المشارب والاتجاهات والاختصاصات، يتفقون على أن هناك ثلاثية تلقي بظلالها الثقيلة على ملف الكهرباء، وربما على ملفات أخرى. هذه الثلاثية تتمثَّل بأميركا والإرهاب والفساد، وكل واحدة منها ترتبط بالأخرى وتتداخل معها وتؤثر فيها أو تتأثر بها.
وسواء نظرنا إلى المشهد من زاوية واسعة جداً تستوعب تفاعلات العقدين الماضيين وتداعياتهما، أو من زاوية ضيقة لا تتعدى أحداث الأسابيع القلائل الماضية، فإن المعطيات والحقائق التي تتبلور على أرض الواقع هي ذاتها، وإن اختلفت، فبشكل بسيط وقليل جداً.
وقد يكون الصراع المحتدم بين شركتي "جنرال ألكتريك" الأميركية و"سيمنز" الألمانية حول من يستأثر بملف إصلاح وتطوير الطاقة الكهربائية في العراق، كإنتاج ونقل وتوزيع، أحد أبرز الدلائل والمؤشرات على التوظيف والاستغلال السياسي للأزمة من قبل الولايات المتحدة الأميركية، باعتبارها الطرف الرئيسي المهيمن على مقاليد الأمور منذ إسقاط نظام صدام واحتلال العراق قبل 18 عاماً، إذ أتاحت تلك الهيمنة المجال لشركة "جنرال إلكتريك" للدخول إلى الساحة العراقية، وأوصدت الأبواب إلى أقصى قدر ممكن أمام الآخرين.
ورغم أنَّ الشركة الأميركية التي يتجاوز عمرها 130 عاماً (تأسَّست في العام 1892) دخلت إلى العراق في العام 2003، أي بعد الاحتلال بعدة شهور، لتنفيذ مهمة محددة، تمثلت بإعادة إصلاح منظومة الطاقة الكهربائية، فإنها فشلت وعجزت عن تحقيق الحد الأدنى من النَّجاح، علماً أنَّها في بلدان أخرى نجحت في أعوام قلائل في ما فشلت به في العراق على امتداد ما يربو على عقدين من الزمن، وهي قبل أكثر من شهر، قالت عبر الرئيس التنفيذي لها في العراق رشيد الجنابي: "إن العراق يواجه في المرحلة الراهنة تحدياً كبيراً في موارد الطاقة، لكن هناك العديد من الحلول المؤهلة لمعالجة هذا النقص، وتمتلك الشركة تقنيات مبتكرة وموثوقة للمساهمة في ردم الفجوة ضمن قطاع الطاقة العراقي. هذه الحلول تدعم الخطة التي وضعتها الحكومة العراقية لتحسين واقع الكهرباء في البلاد".
مثل هذا الكلام قيل عدة مرات خلال الأعوام الماضية، من دون أن تكون له انعكاسات واقعية وعملية على الأرض؛ ففي شهر أيلول/سبتمبر 2018، صرح مدير قطاع الطاقة في الشركة الأميركية، فريدريك ريفيرا، قائلاً: "إن "جنرال إلكتريك" سلَّمت الحكومة العراقية استراتيجية لتطوير قطاع الطاقة الكهربائية في البلاد، ورفع قدرة المنظومة الوطنية، وتشغيل المزيد من الأيدي العاملة، عبر إدخال التكنولوجيا الحديثة في مشاريع الطاقة".
في مقابل تمكين "جنرال إلكتريك"، تعرَّضت منافستها الرئيسية، شركة "سيمنز" الألمانية الرائدة في المجال ذاته، للكثير من المعوقات والعراقيل والمصاعب التي لم يتردد مسؤولون كبار في الشركة في التصريح عنها.
وما قاله الرئيس التنفيذي للشركة جو كيزر قبل أكثر من عامين يؤشر إلى ذلك بكلّ وضوح، إذ أدلى في حينه بتصريحات أكد فيها أن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب "كان له دور في محاولة عرقلة اتفاق الشركة مع الحكومة العراقية والدفع باتجاه منح الصفقة بالكامل لشركة "جنرال إلكتريك" الأميركية"، إذ بلغت ذروة التنافس بين الشركتين في عهد رئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي للفوز بعقود بقيمة 4 مليار دولار، ولكن - بحسب مصادر رسمية - بعد ضغوط عدة، استمرَّت "جنرال إلكتريك" بالحصول على عقود الكهرباء داخل البلاد، حتى إنها استأثرت بأكثر من 55% منها وفق ما أفصح عنه المتحدث باسم وزارة الكهرباء أحمد العبادي.
وفي وقت لاحق، أكَّد القاضي والنائب السابق في مجلس النواب العراقي، وائل عبد اللطيف، "أن الولايات المتحدة وشركة "جنرال إلكتريك" أجبرتا رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي على التراجع عن إكمال عقد كهربائي مهم كان من المؤمل توقيعه مع شركة "سيمنز" الألمانية، رغم أنَّ العبادي هو صاحب الفكرة، وهو الَّذي ذهب إلى الشركة الألمانية، لكنه تراجع في اللحظات الأخيرة عن التوقيع بضغط أميركي لحماية وجود "جنرال إلكتريك" في العراق وعقودها المستمرة".
مرة أخرى، عادت "سيمنز" لتجدّد استعدادها ورغبتها في حل أزمة الكهرباء في العراق، من خلال إنشاء خارطة طريق فنية واستراتيجية متكاملة لتحقيق التكامل في تجهيزِ الطاقة، وإنهاء أزمة المواطنين بشكل تام، شرط عدم تدخل السفارة الأميركية في بغداد في عملها، في إشارة واضحة إلى حجم الضغوط والعراقيل الأميركية عليها في الفترات السابقة.
من الطبيعي أن هذا التوظيف والاستغلال السياسي السيئ يتداخل مع الفساد المالي والإداري والبيروقراطية الشائكة، ليبدد أي فرص أو إمكانيات للتوصل إلى حلول عملية ناجعة لأزمة الكهرباء العراقية، وإلا أين ذهبت أكثر 60 مليار دولار أنفقت على هذا القطاع الحيوي طيلة 18 عاماً، من دون أن يتغير شيء سوى الوعود الوهمية من قبل الشركات الأجنبية، ولا سيَّما "جنرال إلكتريك" والتسويف الحكومي! ومثلما يقول النائب السابق في البرلمان العراقي رحيم الدراجي، "إنَّ أكثر من 65 مليار دولار أنفقت على الطاقة الكهربائية خلال السنوات السابقة، وإن تلك الأموال أهدرت نتيجة فساد جميع العقود التي وقعت في هذا الملف، وبأسعار تبلغ 5 أضعاف السعر الحقيقي لها، ليسيطر من خلالها الفاسدون والنافذون على أموال العراقيين"!
ومما لا يقبل الشكّ أنَّ "جنرال إلكتريك" وشركات أخرى كان لها حصة غير قليلة في عوائد الصّفقات والعقود الفاسدة، وهذا يصدق على مجالات وقطاعات أخرى. وقد كان للسفير الأميركي بول بريمر، خلال العام الذي قضاه رئيساً لما يعرف بسلطة الائتلاف المؤقتة (CPA) في العراق بعد سقوط نظام صدام، دور سلبي خطير وكبير في التأسيس لمنظومات الفساد والهدر المالي والانحراف، مثلما أسَّس لمعادلات سياسية تقوم على المحاصصة الطائفية والقومية والمذهبية، والتي أفرزت واقعاً سياسياً قلقاً ومرتبكاً ومضطرباً ومتأزماً على طول الخط.
واللافت أنه بسبب التراكمات المتلاحقة، وتشعّب حلقات الفساد، ووجود أغلب محركاتها في المراكز العليا، ناهيك بارتباطها بدوائر خارجية، لم يعد ممكناً لأي مسؤول، بدءاً من رئيس الوزراء، مروراً بالوزراء والمؤسَّسات الرقابية والقانونية المختصة، وصولاً إلى المفاصل المتوسطة والصغيرة، لم يعد ممكناً محاربة الفساد واجتثاث جذوره العميقة، وهو ما ينطبق على ملفّي الكهرباء والنفط وغيرهما.
العامل الآخر في ثلاثية أزمة الكهرباء يتمثّل بالإرهاب. وما يؤكد البعد السياسي هنا هو أنَّ حجم الاستهدافات والحملات التخريبية لأبراج وخطوط نقل الطاقة الكهربائية في مختلف مدن ومناطق العراق خلال الأسابيع القلائل الماضية، تزايدت بشكل ملحوظ، بحيث إنَّها أدّت إلى حصول شلل شبه تام في الكهرباء، تزامن مع تجاوز مستويات الحرارة نصف درجة الغليان، إذ إن عشرات أبراج الضغط العالي تعرَّضت للتخريب، علماً أنَّ كلفة إصلاح البرج الواحد تبلغ 20 ألف دولار (30 مليون دينار عراقي)، وفق ما تذكر مصادر حكومية.
ويعزو المتحدث باسم وزارة الكهرباء تفاقم الأزمة إلى عدة عوامل، من بينها عمليات التخريب المستمرة، مع أهمية التذكير بأمرين؛ الأول هو إعلان تنظيم "داعش" مسؤوليته عن بعض أو معظم عمليات استهداف أبراج وخطوط نقل الطاقة، والآخر هو أن طيران التحالف الدولي الذي يجوب سماء البلاد طولاً وعرضاً، لم يتخذ أي إجراء أو يقوم بخطوة في هذا الشأن، واكتفى بالتزام الصمت ومراقبة ما يفعله "داعش"!
وما يعزّز البعد السياسي في مجمل ملف الكهرباء، هو الحملات الإعلامية المتواصلة ضد إيران، وتحميلها المسؤولية، لأنها أوقفت أو قلَّلت ضخّ الغاز المطلوب لتشغيل محطات توليد الكهرباء، في الوقت الذي يؤكّد مسؤولون من طهران استمرار الأخيرة بتزويد بغداد بالغاز، رغم تراكم الاستحقاقات المالية وعدم تسديدها وفقاً للاتفاقيات المبرمة.
إلى جانب ذلك، ومنذ أكثر من عام، راحت أوساط ومحافل سياسيَّة وإعلاميَّة داخليَّة وخارجيّة تتحدَّث وتروّج كثيراً لأهميَّة الربط الكهربائي مع دول الخليج، كبديل أقل كلفة مما هو قائم حالياً، ومن ثم الترويج للمكاسب الاقتصادية الكبيرة - في مجال الكهرباء والمجالات الأخرى - التي سوف تتحقق من انفتاح العراق على كل من مصر والأردن.
هذه الصّورة المرتبكة والمضطربة والقاتمة لكهرباء العراق، التي رسمتها وصاغتها وبلورتها في الدرجة الأساس الأجندات والمصالح السّياسيّة، لا يمكن فصلها وعزلها عن استحقاقات سياسية قريبة، من بينها الانتخابات البرلمانية المبكرة بعد 3 شهور، والمطالبات بإنهاء التواجد الأميركي في العراق، والهجمات الصاروخية المتواصلة، والضغوطات على طهران. كل ذلك دفع ثمنه، وما زال، المواطن العادي المغلوب على أمره، سواء استسلم للأمر الواقع أو قرّر أن يثور غاضباً متظاهراً ومحتجاً في الشّوارع والميادين والسّاحات.