"حلف القدس".. إيران والجهاد الإسلامي نموذجاً

"حلف أورشليم" الصهيو أميركي يوجّه بَوصلته إلى كل الاتجاهات، ما عدا القدس وفلسطين، ويصوّب بندقيته نحو كل البلاد ما عدا الكيان الصهيوني.

  • كانت فلسطين حاضرة في إيران الثورة قبل إنشاء الجمهورية الإسلامية عام 1979م، من خلال حضورها في فكر مُفجّر الثورة ومؤسس الجمهورية.
    كانت فلسطين حاضرة في إيران الثورة قبل إنشاء الجمهورية الإسلامية عام 1979م، من خلال حضورها في فكر مُفجّر الثورة ومؤسس الجمهورية.

ما بين انتصار الثورة الإسلامية في إيران، واشتعال معركة "سيف القدس" في فلسطين، مروراً بحرب تموز/يوليو 2006 في لبنان، تكوّن من خلال الصراع ضد الاستعمار الأميركي والكيان الصهيوني حلف جديد في المنطقتين العربية والإسلامية، يضمُّ دولاً ممانِعة للاستعمار الصهيوني الأميركي، وحركات مقاوِمة للاحتلال الصهيوني الإسرائيلي. هدف هذا الحلف هو تدمير المشروع الغربي الاستعماري ضد الأمة الإسلامية، ممثَّلاً بالوجود الأميركي والكيان الصهيوني، ومحور الحلف فلسطين وقبلته القدس.

لذلك، فهو في مضمونه "حلف القدس"، وأقدم دوله هي الجمهورية الإسلامية في إيران، كما أنَّ أقدم حركات المقاومة في الحلف هي حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين. فكانت كل من إيران والجهاد نموذجاً صادقاً عن "حلف القدس"، حتى قبل نشأة الجمهورية الإسلامية في إيران، وحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، عندما كانت الجمهورية ثورة والحركة فكرة. 

كانت فلسطين حاضرة في إيران الثورة قبل إنشاء الجمهورية الإسلامية عام 1979م، من خلال حضورها في فكر مُفجّر الثورة ومؤسس الجمهورية، الإمام الثائر آية الله الخميني - رحمه الله ـ، بحيث اعتبر تحالف النظام الملكي الإيراني مع الكيان الصهيوني ودعمه، وتخليه عن دعم القضية الفلسطينية ومقاومتها، أهمَّ أسباب نزع الشرعية عنه والتحريض على الثورة ضده. وأفتى بتخصيص جزء كافٍ من الحقوق الشرعية، من الزكاة وسائر الصدقات، للمجاهدين الفلسطينيين والثورة الفلسطينية لمحاربة الكيان الصهيوني، وحرّم التعامل مع الكيان في كل مجالات الحياة، واعتبر مقاطعتها الشاملة واجباً شرعياً على المسلمين، واعتبر فلسطين قضية المسلمين الأولى، ووجود "إسرائيل" خطراً على الأمة الإسلامية. لذلك، اعتبر تحريرها واجباً على كل المسلمين، فقال: "نحن نقول إن إسرائيل يجب أن تُمحى من الوجود، وإن بيت المقدس ملك للمسلمين، وقِبلتهم الأولى". من هذه الرؤية، انطلقت سياسة الجمهورية في دعم المقاومة  الفلسطينية، وفي مقدمتها حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين. 

حضور القدس وفلسطين والمقاومة الفلسطينية في فكر الثورة الإسلامية، قبل انتصارها وإعلان الجمهورية عام 1979م، بواسطة مؤسسها ومرشدها الأول الإمام الثائر آية الله الخميني، قابله حضور الثورة الإسلامية في فكر حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين بواسطة مؤسسها وأمينها الأول الشهيد المفكر فتحي الشقاقي، قبل الإعلان عن إنشاء الحركة مطلع ثمانينيات القرن العشرين. فلقد نشر كتابه "الخميني: الحل الإسلامي والبديل"، عام 1979م، والذي كتبه قُبيل انتصار الثورة، فأشاد بالثورة ودورها المتوقَّع في نهضة الأمة وتحرير فلسطين. واعتبر الإمامَ الثائر آية الله الخميني، مع الإمام الشهيد حسن البنا، أهمَّ رجلين في القرن العشرين تأثيراً في الساحة الإسلامية. وكتب عن الثورة قائلاً: "إنَّ الثورة الإسلامية في إيران ثورة إسلامية بمعناها القرآني الرحب.. إنها ليست ثورة طائفة دون طائفة. إنَّ القواسم المشتركة بين جناحي المسلمين السُّنَّة والشيعة لَتكاد بل هي فعلاً تشكل جسد هذه الثورة بدءاً من منطلقاتها وأهدافها ووسائلها وبواعثها". من هذه الرؤية المتقدّمة والاستشرافية للثورة الإسلامية الإيرانية، أُسس وجود "حلف القدس"، لتكون حركة "الجهاد الإسلامي" إحدى أهم ركائزه كقاعدة متقدمة في القدس وفلسطين. 

حضور فلسطين في فكر الثورة الإسلامية قبل انتصارها، تحوّل إلى واقع فعليّ ونهج ثابت وسياسة دائمة لإيران بعد انتصار الثورة عام 1979م، وإنشاء الجمهورية الإسلامية. ودخلت فلسطين في صُلب مشروعية الثورة الإسلامية، وباتت من مرتكزات شرعية النظام الثوري، وأحد مكوّنات هوية الجمهورية الإسلامية، وأصبحت محوراً ثابتاً ومحدِّداً أساسياً في سياسة إيران الخارجية ومشاركتها في المحافل الدولية، فدعمت المقاومة الفلسطينية، وأمدّتها بالمال والسلاح والخبرات. وعملياً، بعد أسبوع واحد من النصر، أغلقت السفارة الإسرائيلية في طهران، وسلّمت مفاتيحها إلى منظمة التحرير الفلسطينية. وكان أول ضيف أجنبي زار إيران الزعيم الراحل ياسر عرفات ليلتقي قائدها وجماهيرها، التي استقبلته بشعار "اليوم إيران وغداً فلسطين". وأُعلن يومُ القدس العالمي يوماً للتضامن مع القدس وفلسطين، وتأكيداً للالتزام بقضيتها وتحريرها. وأُعلن تشكيلُ "فيلق القدس" لتكون أُولى مهماته دعم المقاومة. 

ظلّت إيران تشير إلى هذا النهج في عهد مرشد الثورة والدولة الثاني الإمام السيد علي خامنئي. وحضور فلسطين والمقاومة في قلب إيران هو السبب في غياب الفريق الشهيد قاسم سليماني، قائد "فيلق القدس" في جريمة الاغتيال الصهيو- أميركية. 

بعد إنشاء حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين كانت الثورة الإسلامية في إيران أكثر حضوراً في فكر الشهيد الشقاقي، من خلال رؤيته علاقة  الحركة بالآخرين، قُرباً أو بعداً، تحالفاً أو تنافراً. وهذه العلاقة حدَّد لها معايير الإسلام وفلسطين والمقاومة، فوضع إيران وفق هذه المعايير في دائرة القرب والتحالف، قائلاً: "نرى في الثورة الإسلامية في إيران حليفاً وصديقاً لقضايانا خاصة في فلسطين، لقد حرّرت الثورة الإسلامية إيران ونقلتها من موقع مُعادٍ للعرب والإسلام وصديق للغرب والكيان الصهيوني، إلى الموقع المُقابل تماماً، واجبنا أنْ نحافظ على هذا التطور والانقلاب الخطر متجاوزين بذلك البُعد المذهبي والقومي". وعندما سُئِل عن مساعدة إيران للحركة أجاب: "نتلقّى مساعدات من أصدقاء يتفقون معنا في الهدف الاستراتيجي، والمساعدات غير مشروطة إلاّ باتجاه الهدف الاستراتيجي". ورأى في دعم الثورة الإيرانية للجهاد الإسلامي، جزءاً من مشروع تحرير فلسطين في إطار تنظيم إمكانات الأمة في الحرب الشاملة ضد الكيان الصهيوني والمشروع الغربي، يتمّ فيه توزيع الأدوار وتكاملها، ليكون دور المجاهدين في فلسطين، وطليعتهم حركة "الجهاد الإسلامي"، هو مشاغلة العدو، واستنزاف قدراته، وإبقاء الصراع حياً حتى إنجاز وحدة الأمة في جبهة إسلامية واحدة وصولاً إلى النصر. 

وأكد الأمين العام الثاني لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، الدكتور الراحل رمضان عبد الله شلح، هذه الرؤية وهذا التحالف مع إيران وكل العرب والمسلمين، من خلال المعايير التي وضعها مؤسس الحركة - الإسلام وفلسطين والمقاومة -. فكتب في الوثيقة السياسية للحركة أنَّ فلسطين هي القضية المركزية للأمتين العربية والإسلامية، وواجب هاتين الأمتين هو تحرير فلسطين، والأمة هي عمق فلسطين، والشعب والقضية والمقاومة، وعلاقة فلسطين بالأمة بناءً على هذه الأرضية. وبقدر اقتراب الأمة من فلسطين يتوجّب على الفلسطينيين الاقتراب منها، ففلسطين هي محور هذه العلاقة والقدس هي قبلتها. وأكد توثيق علاقات التعاون والتحالف مع كل القوى العربية والإسلامية الداعمة لفلسطين ومقاومتها، والرافضة للاعتراف بالكيان الصهيوني، ولكل الهيمنة الأميركية الصهيونية على المنطقة. وكان حريصاً بعد "ثورات الربيع العربي" على النأي بالقضية الفلسطينية عن الصراعات العربية والإسلامية، ولاسيما المذهبية منها، فقال في مقابلة تلفزيونية عام 2015م إن "محور المقاومة هو محور فلسطين والقدس... علينا أن نجعل المقاومة مشروعاً للتحرير، ووضع المقاومة خارج حالة الاصطفاف في المنطقة، سياسياً ومذهبياً وقومياً".

وأكد الأمين العام الثالث للحركة، الأستاذ المجاهد زياد النخالة، عمق التحالف بين إيران و"الجهاد" في إطار محور المقاومة و"حلف القدس". وقال في مقابلة عام 2019م "من الواضح أن المقاومة الفلسطينية مُحاصَرة من الجميع باستثناء الجمهورية الإسلامية... وإيران اليوم هي الدولة الوحيدة التي تدعم الفلسطيني وتدفع ثمن هذا الدعم". وعن الجانب المذهبي المُثار في هذا الشأن يرى "أنه زُج به في هذا الإطار، وهو لا وجود له. فالإيرانيون لا يسعون لتشيُّع أهل السُنّة في فلسطين ولا أهل فلسطين يسعون للتشيُّع... إنَّ دعم إيران لنا وللفصائل الأخرى لم يكن يوماً على أساس مذهبي، ونحن مستمرون في هذه العلاقة الأخوية، وأستطيع القول إنَّ كل ما تتمتع به المقاومة من إمكانات هو بفضل دعم الجمهورية الإسلامية لها". 

"حلف القدس"، في كل مكوناته: دول مُمانعة، وحركات مُقاومة، ولاسيما إيران الدولة والثورة، و"الجهاد الإسلامي" الحركة والفكرة، سيظل واضحاً ومتميزاً عن "حلف أورشليم" الصهيو أميركي. فـ"حلف القدس" يوجّه بَوصلته نحو القدس وفلسطين، ويُصوّب بندقيته نحو الكيان الصهيوني الغاصب، ويسعى لأن تكون كل الأرض مُمانِعة للاستعمار، ومقاوِمة للاحتلال، وثورة على الطغيان، وتمرداً على العبودية. 

أمّا "حلف أورشليم" الصهيو أميركي فيوجّه بَوصلته إلى كل الاتجاهات، ما عدا القدس وفلسطين، ويصوّب بندقيته نحو كل البلاد ما عدا الكيان الصهيوني، ويسعى لأن تكون كل الأرض مساوِمة للاستعمار، ومُستسلمة للاحتلال، وخاضعة للطغيان، ومُتعايِشة مع العبودية... فشتانَ بين حلف تُعَزُّ به الأمة وتعيشُ حياة الحرية والكرامة، وحلفٍ تُذَلُّ به الأمة وتعيشُ حياة العبودية والمهانة.