استراتيجية "تبادُل الجبهات الاستنزافية" ضد "إسرائيل"
تبرز أهمية الحديث عن التنسيق وتبادُل الأدوار بين كل الجبهات داخل "حلف القدس" كإحدى أهمّ الاستراتيجيات المستنزِفة للقوة الإسرائيلية وصولاً إلى هزيمتها.
تمرّ ذكرى حرب تموز/يوليو 2006 هذا العام في ضيافة معركة "سيف القدس"، التي شكّلت نقلة نوعية في تاريخ الصراع مع المشروع الصهيوني، من حيث قدرتها على الإعلان، على نحو حاسم وفعلي، عن "حلف القدس"؛ ذلك الحلف الذي يحمل على عاتقه مشروع التحرير، ودحر المشروع الصهيوــ أميركي في المنطقة.
إن هزيمة "إسرائيل" هي الهدفُ الاستراتيجي المركزي لـ"حلف القدس"، من خلال التغلُّب على قوتها، عسكرياً وسياسياً واقتصادياً، بواسطة عملية استنزافية دائمة ومستمرة لها، من دون أن يكون لـ "إسرائيل" القدرة على إيقاف ذلك الاستنزاف. وهنا، تبرز أهمية الحديث عن التنسيق وتبادُل الأدوار بين كل جبهات المواجهة داخل "حلف القدس" (محور المقاومة) في مواجهة "إسرائيل"، كإحدى أهمّ الاستراتيجيات المستنزِفة للقوة الإسرائيلية الشاملة، وصولاً إلى هزيمتها الحاسمة، وهو الأمر الأقرب إلى استراتيجية "الحركة في الخطوط الداخلية"، والتي تتيح حشد القوة المركزية للمواجهة في الجبهة الأكثر ملاءَمةً، في التوقيت والظرف الموضوعيَّين، مع استمرار سائر الجبهات في الدفاع أو الهجوم المحدود، لكن مع القدرة على تبديل جبهات المواجهة المركزية، بحسب المصلحة العامة للحرب.
يُعتبر تبادل الأدوار بين حزب الله والمقاومة الفلسطينية، في السنوات التي تلت الانسحاب الإسرائيلي من جنوبي لبنان في أيار/مايو 2000، وما تلاه مباشَرة من اندلاع انتفاضة الأقصى الفلسطينية في الثامن والعشرين من أيلول/سبتمبر من العام ذاته، مثالاً يوضح قدرة استراتيجية "تبادل الجبهات الاستنزافية" على تحقيق الانتصارات التي تجلّت في حرب تموز/يوليو 2006.
اعتُبر مشهدُ اندحار جيش الاحتلال الإسرائيلي من لبنان أحدَ أسباب تزايد ثقة الشعب الفلسطيني بذاته وبقدرته على تفجير انتفاضة شعبية عسكرية، على امتداد الجغرافيا الفلسطينية في مواجهة الاحتلال، طوال ما يقارب خمس سنوات، بعد أن أيقن الفلسطينيون فشلَ أوهام التسوية مع المشروع الصهيوني، بحيث وصل عدد القتلى الإسرائيليين في الانتفاضة إلى 1069 قتيلاً.
وسجّل عام 2002 ذروة القتلى الإسرائيليين، بمعدل 22 قتيلاً شهرياً، بحسب تقديرات منظمة "بيت سيلم" الإسرائيلية. وشكّلت تلك الانتفاضة ساحة المواجهة الرئيسية لـ"جيش" الاحتلال، وخصوصاً بعد شنّه عملية "السور الواقي" التي أعاد من خلالها احتلال مناطق السلطة الفلسطينية، واصطدم بمقاومة فلسطينية لم يتوقّعها، على غرار معركة مخيم جنين البطولية، بالإضافة إلى حجم الانتقادات الدولية التي تعرّض لها نتاج همجيته ووحشيته ضد المدنيين الفلسطينيين، الأمر الذي جعل من القضية الفلسطينية محطَّ اهتمام الساسة الإسرائيليين طوال تلك الفترة.
خضع حزب الله لتغيير جوهري في السنوات الستّ التي تلت الانسحاب الإسرائيلي من لبنان، ورافقت اندلاع الانتفاضة، بحيث بدأ الاستعداد، بصورة مكثَّفة، لمواجهة احتمال غزو إسرائيلي آخر للبنان، مع استمراره في إرساء قواعد موازين ردع مع "إسرائيل"، سواء من خلال الاحتكاك المنضبط مع "جيش" احتلالها عند الحدود، من خلال مهاجمة حزب الله، بطريقة أصبحت روتينية، للمواقع العسكرية الإسرائيلية في القطاع الشمالي للحدود بصورة أساسية، أو من خلال الدعم اللوجستي المتواصل للمقاومة الفلسطينية في أثناء انتفاضة الأقصى، ناهيك بمعركة الجهوزية الأكثر أهمية استراتيجية في موازين الصراع بين حزب الله والاحتلال الإسرائيلي، بحيث أضاف حزب الله أكثر من 100 كيلومتر من الأنفاق والتحصينات، و12000 من الصواريخ، التي يغطي مداها شمالي فلسطين المحتلة بأكمله، بما في ذلك الخضيرة وربما غوش دان، ناهيك بترسانة من الأسلحة المضادة للدبابات والطائرات وأنظمة القيادة والسيطرة. وفي الوقت نفسه، عمل حزب الله، بجِدّ، على تأسيس هيكله التنظيمي، وتدريب وحداته، وتوسيع انتشاره البري وبنيته التحتية التشغيلية، وتعميقهما في جنوبي لبنان وسهل البقاع ومنطقة بيروت.
أدّى تركيز المؤسستين العسكرية والسياسية في "إسرائيل" على الجبهة الفلسطينية، من أجل مواجهة انتفاضة الأقصى، إلى انتهاج سياسة الاحتواء الإسرائيلية تجاه حزب الله في الجبهة اللبنانية، كما عبّر عن ذلك صراحة الباحث في جامعة تل أبيب عومر دوستري، إذ قال "إن اندلاع الانتفاضة الثانية في أيلول/سبتمبر 2000، أدّى إلى تعزيز سياسة الاحتواء، بسبب تطلّع إسرائيل إلى تجنّب فتح جبهة مواجهة ثانية، ورغبتها في التركيز على محاربة المقاومة الفلسطينية، من دون الغرق مرة أُخرى في المستنقع اللبناني". ونتيجة لذلك، يؤكد دوستري أن "إسرائيل" انتهجت سياسة احتواء حزب الله، و"امتنعت عن ردود الفعل التي يمكن أن تؤدي إلى تصعيد في الجبهة اللبنانية".
تُثبت التجربة أن استراتيجية "تبادُل الجبهات الاستنزافية" تساعد "حلف القدس" على إتمام عملية جهوزية جبهاته على نحو دائم، لكن من خلال فعل تراكميّ، بحيث تمنح هذه الاستراتيجية كلَّ الجبهات داخل هذا "الحلف" الوقتَ اللازم لترتيب جهوزيتها وتطويرها، من خلال تخفيف الضغط العسكري الإسرائيلي عنها، في الوقت ذاته الذي تستنزف جبهةٌ أخرى من "حلف القدس" العدوَّ الإسرائيلي، الأمر الذي يؤدي إلى:
أولاً، التشتيت الدائم لـ "إسرائيل"، وإفقادها القدرة على تشكيل استراتيجية ثابتة وواضحة تجاه أيّ جبهة من جبهات "حلف القدس". واختلاف ظروف جبهات "حلف القدس"، جغرافياً وسياسياً، وحتى دولياً، يجعل، على نحو مؤكَّد، إنتاجَ استراتيجية إسرائيلية واحدة تجاه كل جبهات هذا "الحلف" أمراً قي غاية التعقيد، وخصوصاً في ظلّ مشهد سياسي إسرائيلي مضطرب. وبذلك، تفقد "إسرائيل" الاستراتيجية، وتبقى في مربَّع التكتيك الذي لا يمكن أن يحقق لها انتصاراً في حربها ضد "حلف القدس".
ثانياً، سلب زمام المبادرة من "إسرائيل" من خلال إجبارها دوماً على الذهاب إلى مواجهة في الجبهة التي يحدِّدها "حلف القدس"، من خلال تثوير تلك الجبهة في عملية تنسيقية تكاملية بين كل جبهات الحلف. وبالتالي، يتحكّم "حلف القدس" في إيقاع الصراع، والأهم القدرة على تحديد الجبهات المراد لها أن تكون هادئة، أو تلك التي يسعى لاستكمال عمليتَي البناء والجهوزية فيها، تحت وطأة عدم قدرة "إسرائيل" على خوض حرب في كل الجبهات، في آن واحد، حتى يأتي الوقت الذي تستأنف فيه تلك الجبهة دورها في مواجهة الاحتلال، وصولاً إلى اللحظة التي تصبح فيها كل جبهات "حلف القدس" جاهزة لخوض معركة التحرير الكبرى ضد الاحتلال الإسرائيلي.
ثالثاً، إبقاء "إسرائيل" في حرب دائمة، حتى مع اختلاف جبهات المواجهة لها. وبالتالي، يزداد الضغط على المشروع الصهيوني بأكمله، في كل المستويات، بحيث إن لكل جبهة من جبهات "حلف القدس" قيمة مضافة أكثر من غيرها، بالنسبة إلى مستوى الاستنزاف الممارَس ضد "إسرائيل" أو نوعه. وبالتالي، فإنّ تعدُّد مستويات الاستنزاف وتنوُّعَ أشكاله يصبّان في مصلحة انتصار "حلف القدس" في حربه الشاملة ضد المشروع الصهيوني.