حلّ سحري من 5 كلمات لكلّ مشاكل طرابلس في لبنان

جرت العادة في السنوات القليلة الماضية أن يتساءل المراقبون عن كيفية تفشي كل هذا الفقر في المدينة، في ظل تمثيلها نيابياً من قبل أثرى أثرياء لبنان.

  • المخيف أنَّه ما من حلٍّ لكلِّ ما تتخبَّط به المدينة أو على الأقل مشروع حلّ أو خارطة طريق حالمة.
    المخيف أنَّه ما من حلٍّ لكلِّ ما تتخبَّط به المدينة أو على الأقل مشروع حلّ أو خارطة طريق حالمة.

حين يتعلَّق الأمر بطرابلس عاصمة الشمال اللبناني، يبرز دائماً الانقسام السريع بين من لا يعرف عن المدينة شيئاً ويعتقد أنه يعرف كل شيء، ومن ينتصر لعاطفته وذكرياته على حساب الوقائع المتغيرات، ومن يركّز على نقطة واحدة، ويتجاهل عن قصد نقاطاً كثيرة أخرى لا تقلّ أهمية. وبالتالي، إن الحديث العقلانيّ عن طرابلس لا بدّ من أن ينطلق من 8 نقاط أساسية:

1. في جبيل أو صور أو البترون، ثمة تراكم في الاستثمارات السياحية الخاصّة، يسمح بالقول إن الوظيفة الاقتصادية الرئيسية لهذه المدن الثلاث هي السياحة. ثمة أساس يمكن الانطلاق منه، تماماً كما يمكن لعكار والبقاع بغربه وأوسطه وشرقه وحاصبيا القول إن الأساس الذي يمكن اقتصادياً الانطلاق منه هو الزراعة.

أما طرابلس، فلم يحصل فيها أي تراكم استثماريّ في القطاع الخاص في العقدين الماضيين باتجاه معين، سواء كان سياحياً أو خدماتياً أو صناعياً أو زراعياً طبعاً، مع العلم أن من حدَّد الوظيفة الاقتصادية لكلّ من صور وجبيل والبترون وعكار ومحافظة البقاع وحاصبيا، ليس الحكومات المتعاقبة أو وزارة التخطيط أو "الدولة"، إنما القطاع الخاص في كلِّ واحدة من هذه المناطق. أما هذا القطاع الخاص، ممثلاً بشكل رسميّ برئيس غرفة التجارة والصناعة والزراعة في طرابلس والشمال توفيق دبوسي، فلم يكبّد نفسه عناء تحديد وظيفة اقتصادية لهذه المدينة الضخمة.

2. جرت العادة في السنوات القليلة الماضية أن يتساءل المراقبون عن كيفية تفشي كل هذا الفقر في المدينة، في ظل تمثيلها نيابياً من قبل أثرى أثرياء لبنان، لكن الواقع أن أثرى الأثرياء من أبناء المدينة لا يختصرون بالرئيس نجيب ميقاتي والوزير السابق محمد الصفدي، إنما عدد هؤلاء كبير جداً من رجال أعمال وإعلان ومقاولات ووكالات حصرية يعيشون في المدينة، لكن لا يستثمرون فيها دولاراً واحداً في مشاريع إنتاجية أو توظيفية، لأسباب مجهولة بالكامل، مع العلم أن غالبية هؤلاء يقطنون في المدينة.

وفي هذه المدينة، باتت هناك مدينتان؛ واحدة للفقراء يعرفها الجميع ببؤسها الشهير، وأخرى لـ"المرتاحين" بشققهم الواسعة والمكيّفة التي لا تنقطع عنها الكهرباء، ومطاعمهم ومنتجعاتهم وحدائق أولادهم وعياداتهم وصالوناتهم ومتاجرهم الباهظة.

3. في غالبية المناطق اللبنانية، هناك مرجعية ما، سواء سياسية أو حزبية أو أمنية أو دينية، يمكن الرجوع إليها عند الضرورة. أما في طرابلس، فلا يملك أي طرف نفوذاً يمكن الركون إليه في اللحظات الحرجة؛ فحين تقع الواقعة، لا يمكن لأحد أن "يمون" على أحد. وهكذا غالباً ما يحمل فلان وعلتان المسؤولية عن هذا الحدث أو غيره، فيما في الواقع لا يمكن لأحد تحمل مسؤولية أي حدث يحصل في طرابلس، مهما كان دوره عند بدايته.

4. في غالبية المناطق اللبنانية، يمكن ربط أي حدث بجهة سياسية أو أمنية، حيث تتحرك الخيوط بشكل واضح. أما في طرابلس، فتتداخل الخيوط على نحو استثنائيّ غير موجود في أي مكان آخر، حيث لا يمكن الجزم أبداً بحقيقة الارتباطات أو الخلفيات أو من يقف خلف التطورات، مع الأخذ بالاعتبار أنّ غالبية من يُحسبون على جهاز أو فريق أو مجموعة معيَّنة، غالباً ما يكونون على تواصل وتنسيق، وربما أكثر، مع جهاز أو فريق ثانٍ وثالث ورابع وخامس.

5. الإهمال الرسمي لا يميّز بين منطقة وأخرى، وما يُسوّق عن إهمال الدولة لطرابلس بالتحديد غير صحيح، بل هو مجرّد تحريض مناطقي يأخذ في كثير من الأحيان طابعاً مناطقياً- مذهبياً. والتدقيق يبيّن رصد الحكومات المتعاقبة ميزانية هائلة لتوسيع المرفأ الذي تبلغ مساحته 3 مليون متر مربع، كما رصدت ميزانية هائلة لبناء معرض رشيد كرامي الدولي وترميمه، وكذلك الأمر في ما يخصّ ترميم البنية التحتية في منطقة الأسواق القديمة وتأهيلها، لكن من الطبيعيّ أن لا يشعر المواطن الشمالي بأي تغيير رغم كلفة هذه المشاريع وضخامتها، لأنه لا يلاقي أحدٌ هذه المشاريع في منتصف الطريق: توسيع المرفأ شيء، واستفادة المدينة عبر شركاتها ومجتمعها المدنيّ وقطاعها الخاص من هذا المرفأ شيء آخر، وهو ليس مسؤولية الدولة، تماماً كما أن الدولة تتحمل مسؤولية بناء المعرض وتجهيزه. أما تفعيله وإفادة أهل المدينة منه، فهو شيء آخر لا تتحمل الدولة مسؤوليته.

6. غياب التنظيم المدني ألحق بالمدينة تشويهاً عمرانياً هائلاً، وضاعف الفوضى التي تتمدَّد وتتوسّع تحت حجج مختلفة، أبرزها الفقر، وهي تلحق تشويهاً هائلاً بالمدينة، وتضيّق الخناق على أهلها والزوار، فلا يعرف أحد الوجهة الحقيقية للسير، ولا يعرف أحد من يحميه أو يأخذ له حقه في حال صادفه أيّ إشكال، ولا يعرف أحد أين تنتهي حريته وتبدأ حرية الآخرين.

7. من يعرف المدينة يعرف أنَّها تملك أجمل واجهة بحرية على الإطلاق. من "المنصوري الكبير"، إلى "العطار"، إلى "البرطاسي"، إلى "طينال"، تملك المدينة أكثر من 20 جامعاً استثنائياً بقدمه وروعته العمرانية. ومن الكنائس والمدارس الدينية القديمة والمقامات والمزارات والساحات، إلى الخانات والحمامات والقلعة، يكتشف المتجوّل متعة سياحيّة هائلة. ومن النحاسين إلى الصاغة إلى البازركان وحراج (من عصر المماليك) والكندرجية، تحاكي طرابلس إرث دمشق العمراني. هذا في الآثار والتراث، حيث تخفي المدينة تحت غبار الإهمال واحدة من أجمل وأقدم العمارة في لبنان وأكثرها تنوعاً تاريخياً، بموازاة المطبخ الواسع والفريد، لكن الدولة هنا - كما في كل مكان آخر – لا تفعل شيئاً تجاه هذا كلّه. أما البلديات والجمعيات وبعض الأحزاب التي تفعل بعض الشيء في أمكنة أخرى، فلا تفعل أي شيء هنا.

يكفي في هذا السياق المقارنة بين ما تفعله بلدية جبيل مثلاً لتنشيط الحركة التجارية وتسويق المدينة، وما تفعله بلدية طرابلس؛ لا لشيء سوى القول إن اتهام الآخرين بالتقصير وظلم المدينة سهل طبعاً، لكنه أمر شامل لجميع المدن، ولا يستهدف أبداً طرابلس وحدها، فيما المشكلة هنا أكبر، لأن المعنيين المفترضين - على جميع المستويات - يتصرفون بوصفهم غير معنيين.

8. نعم، طرابلس ماضياً وحاضراً ومستقبلاً أبعد ما يكون عن التكفير؛ فرغم كل الضخّ الماليّ الوهابيّ، لا يزال عديد المتأثرين بهذه التوجّهات قليلاً جداً، ولم تفوّت طرابلس مناسبة جدية إلا وأكَّدت أن الجنوح نحو التشدد المذهبي لا يعني إلا قلة قليلة فيها، وهو أمر لا يمكن أن يفهمه بطبيعة الحال من لا يعرف شيئاً عن المذهب السني بمدارسه الكثيرة وحضور هذه المدارس التاريخي في المدينة.

رغم ذلك، سمحت طرابلس في السنوات العشر الماضية بحصول عدة تجاوزات ومواجهات ذات بعد مذهبي، سمحت بتكريس الانطباع الخاطئ، ولم تتحرك بالجدية اللازمة لتصحيحه. باختصار، هناك 98% من الناس يسمحون لـ 2% بأن يفتحوا معركة مذهبية مع جبل محسن ساعة يشاؤون، ويحرقوا مكتبة تاريخية ساعة يشاؤون، ويسحلوا مواطناً أعزل في وسط النهار ساعة يشاؤون، ويخطفوا باصاً للركاب (فان) على خلفية مذهبية ساعة يشاؤون، ويطلقوا الرصاص، ويفتحوا معركة جانبية مع الجيش ساعة يشاؤون.

وفي النّتيجة، المشكلة في طرابلس ليست خارجية فقط أو داخلية فقط، وسواء على المستوى الداخلي أو الخارجي، فإن المشاكل كثيرة في ظلّ تعددية سياسية وأمنية غير موجودة في أية منطقة أخرى، وتتداخل أجهزة خارجية مع أجهزة داخلية مع وجع الفقراء مع خبث السياسيين، ولا يُعرف أبداً من يصفّي حساباته مع من.

والمخيف هنا أنَّه ما من حلٍّ لكلِّ ما تتخبَّط به المدينة أو على الأقل مشروع حلّ أو خارطة طريق حالمة. وبدلاً من البحث عن وظيفة اقتصادية أو دور أو تصوّر اجتماعي، ليس لدى الأفرقاء السياسيين الرئيسيين الذين يفترض أن يكونوا معنيين بحاضر هذه المدينة ومستقبلها أيّ مشروع؛ من تيار المستقبل بنائب رئيسه الطرابلسي مصطفى علوش، إلى الرئيس نجيب ميقاتي، إلى الوزير السابق أشرف ريفي، إلى الناشطين التلفزيونيين في ما يوصف بالثورة.

 لم يكن لدى هؤلاء في السنوات العشر الماضية شيء يقدِّمونه لأهل المدينة سوى التحريض الغرائزي على سوريا، ثم "حزب الله"، ثم سوريا، وليس لديهم ما يقدمونه اليوم للمدينة غير التحريض الغرائزي على جبران باسيل. وبدلاً من تقديم أفكار أو مشاريع عملية أو خطوات تنفيذية، كل ما بوسعهم فعله هو "ردية" الـ"هيلا هيلا، هيلا هيلا هو".

 بهذه الردّية، تواجه الكثافة السكانية والفوضى وانقطاع الكهرباء والمياه والمحروقات والدواء وفرص العمل وانعدام الدور. يذهب الطفل ليطلب مدرسة، فيقدمون له ردّية. يذهب المتخرج ليطلب وظيفة، فيقدمون له ردّية. يذهب أصحاب الأمعاء الخاوية ليطلبوا حقاً، فيقدمون لهم ردّية. يذهب الشَّعب ليطلب محاسبة أو تدقيقاً أو أموالاً محتجزة، فيقدمون له ردّية. ردّية من 5 كلمات هي الحلّ السّحري لكلّ مشاكل طرابلس؛ هكذا يعتقد من لا يفهم أنَّ مرحلة تصفية الحسابات السياسية القديمة انتهت، وسيدخل الناس من بوابة طرابلس إلى مرحلة جديدة مختلفة بالكامل.