تركيا في أفغانستان.. الامتحان الصعب
إردوغان الذي يحاول كسب ود بايدن قد يجد نفسه متورطاً في أفغانستان، حيث المأزق أكثر تعقيداً من وجوده في سوريا أو ليبيا.
تمرّ تركيا حالياً بأشدّ فترات الضعف الداخلي سياسياً واقتصادياً. هناك توترات جارية بين حزب "العدالة والتنمية" وحليفه حزب "الحركة القومية"، بدأت تظهر للعيان، إضافة إلى صراعات خفيّة على السلطة داخل الحزب، فضلاً عن فضائح سادات بيكر، وهو أحد رجال المافيا الَّذي أظهر عبر الفيديو كيف ساهم علناً في الحملات الانتخابية نيابةً عن حزب "العدالة والتنمية"، وكيف قام سرّاً بتمويل بعض أنشطة الحزب ورشوة نوابه. أدت هذه العوامل إلى فقدان غير مسبوق للثقة بالحزب، بسبب مزاعم الفساد المتفشية، ما أدّى إلى انفكاك قسم من مؤيديه عنه، حتى بين الناخبين الموالين سابقاً.
أما من الناحية الاقتصاديّة، فتعتمد تركيا اليوم بشكل أكبر على الغرب، بسبب مبالغة حكومة حزب "العدالة والتنمية" في اعتماد البلاد على النظام الرأسمالي القائم على الاستهلاك.
لن يكون بمقدور تركيا، حتى لو أرادت، التحول إلى نموذج اقتصادي جديد، فالنمط السائد هو نمط استهلاكي يعتمد على تدفّق الاستثمارات الأجنبية، ومن الصّعب بمكان تحويله إلى اقتصاد قائم على الإنتاج. ربما فات زمن المنافسة التخصصية في بعض مجالات التكنولوجيا. لقد فقدت تركيا هذه الفرصة منذ عقدين، إذ كان يمكن الاستفادة منها. أما الليرة التركية، فهي لا تعتمد على قوة اقتصادية ناجزة، بل تعتمد على التصريحات السياسية للمسؤولين الأميركيين، أو على القرارات النقدية لمجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي.
التنازلات مقابل الدعم من واشنطن
أوجه الضّعف هذه جعلت حكومة إردوغان تقدّم كلّ الحلول الممكنة لكسب دعم الولايات المتحدة. وقد قدمت بالفعل بعض التنازلات في شرق البحر المتوسط لتجنّب عقوبات الاتحاد الأوروبي، وتراجعت عن مطالبها في هذه المنطقة، وغيّرت موقفها بعدم التفاوض بشأن القضايا المتعلقة بالبحر الأبيض المتوسط، ولم تعد تكرر ذكر حلّ الدولتين في قبرص، وبدأت بالدفع مقدماً، فناقشت اتفاقية "مونترو" (1936) لتسهيل مرور السفن الحربية الأميركية عبر مضيق البوسفور، ووافقت على أن تكون ركيزة أساسية لاستراتيجية الولايات المتحدة، من خلال تطبيع علاقاتها مع مصر و"إسرائيل" والمملكة العربية السعودية في الشرق الأوسط، وجورجيا وأوكرانيا وبولندا في أوروبا الشرقية. وستربط تركيا استراتيجياً بين هاتين المنطقتين، الأمر الذي من شأنه أن يعزّز موقف الناتو ضد روسيا، ويساعد في عرقلة مشاريع الصّين في الشرق الأوسط.
أكَّد إردوغان لألمانيا أنَّه لن يسمح للمهاجرين الجدد بالدخول إلى أوروبا، وأنَّ تركيا تستطيع العثور على خطّ ساخن مع اليونان على أعلى مستوى، لتجنّب أيّ توترات في بحر إيجة والبحر الأبيض المتوسط. أما بالنسبة إلى أنظمة "إس -400"، فسوف يتراجع إردوغان لا محالة، وهو مستعد للتنازل في العديد من المجالات، ما دام ذلك يساعده في البقاء في السلطة.
فتح صفحة جديدة مع إدارة بايدن لن يكون متكافئاً، لأنَّ الرئيس الأميركي وفريقه للسياسة الخارجيّة يدركون أن يد تركيا ضعيفة بما يكفي للتراجع عن تقديم مطالب. يعي المسؤولون الأتراك الأمر، فهم ليسوا في وضع يسمح لهم بتوجيه أي طلب من واشنطن، إلا أن المصلحة الأميركية تكمن في إبقاء تركيا إلى جانب الغرب، فهي جزء من الهيكل السياسي والأمني للناتو، وتتميز بأهمية استراتيجية. سيفقد إردوغان الورقة الروسية بعد أن استخدمها لموازنة القوة مع واشنطن، وهو يحاول الآن موازنة النفوذ الروسي مع أوروبا الشرقية والشّرق الأوسط.
أفغانستان أو ورقة الرضا الأميركي عن إردوغان
في إطار جهودها المبذولة لإصلاح العلاقات مع الولايات المتحدة، عرضت تركيا تولي مسؤولية مطار كابول، بعد أن تكمل قوات الناتو بقيادة الولايات المتحدة انسحابها من أفغانستان في أيلول/سبتمبر، إلا أنها لم تؤمن موافقة "طالبان" الَّتي لم تبدِ أي رغبة في وجودها، فهي تعتبر أنها أتت مع الناتو وترحل معه. ثمة أسئلة بديهية حول كيفية تعامل إيران وباكستان، الجارتين الرئيسيتين لأفغانستان، مع دور تركيا.
ستتولّى تركيا مسؤوليّة أمن المطار والسفارات والمرافق الحيويّة في كابول، وهي مهام دفاعية وقتالية. لطالما رأت أفغانستان تركيا العضو الوحيد ذا الأغلبية المسلمة في الناتو، وهي كانت موجودة في أفغانستان، لدعم الاستقرار ومساعدة الشعب الأفغاني، كجزء من العلاقة التاريخية الوثيقة بين الشعبين، بما في ذلك الروابط العرقية.
عقد وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو اجتماعاً ثلاثياً مع نظيريه الإيراني والأفغاني في 20 حزيران/يونيو خلال منتدى دبلوماسي في مدينة أنطاليا التركية على البحر المتوسط. وأكَّد بيان مشترك بعد الاجتماع التزام الدول الثلاث بزيادة التعاون ودعم "أفغانستان ذات سيادة ومستقلة وديمقراطية وموحّدة"، لكنَّه لم يشر إلى عرض تركيا لحراسة مطار كابول الدولي وإدارته. يبدو أن أنقرة تعتمد على قوتها الناعمة في أفغانستان لاستخدامها كورقة مساومة لإذابة الجليد مع واشنطن.
صحيح أنَّ أنقرة تمتّعت بنفوذ سياسيّ واجتماعيّ بين الأفغان، وخصوصاً المجموعات ذات الجذور التركية، مثل الأوزبك، لكنْ هناك فاعلون إقليميون متورّطون في أفغانستان كباكستان، وهي لاعب أساسي، إذ حافظت على سيطرة محكمة على البشتون الأفغان الذين يسكنون مناطق على طول الحدود الأفغانية.
ولدى إسلام أباد مصالح اقتصادية ونزاعات حول المياه مع كابول. وبحسب الخبراء، من الصعب تخيّل باكستان كحليف موثوق لتركيا في أفغانستان. أما إيران، فلديها حالياً علاقات نشطة في أفغانستان، وأخرى ودية مع طالبان. روسيا، من جهتها، متردّدة في دعم تركيا، لأنها أقامت مؤخراً علاقات وثيقة مع قادة "طالبان"، ولن تكون راضية عن وجود عضو في الناتو في هذا أفغانستان. ربما تعدّ الصين الفاعل الإقليمي الوحيد الَّذي قد يفضّل دوراً تركياً نشطاً في أفغانستان، لكن على أمل دفع مبادرة "الحزام والطريق" بشكل عام، ويفضّل اللاعبون الإقليميون التعامل مع "طالبان" بدلاً من تركيا.
وحدها الولايات المتحدة وحلف شمالي الأطلسي يشجعون الدور التركي، الذي يحتاج إلى غطاء من مجلس الأمن الدولي ودعم سياسيّ ولوجستيّ، وإلا يمكن أن تدفع تركيا ثمناً كبيراً، حيث يتحول وجودها إلى اضطراب سياسي خطير.
إردوغان الذي يحاول كسب ود بايدن سوف يجد نفسه في مأزق أكثر تعقيداً من وجوده في سوريا أو ليبيا، ويمكن أن يصل إلى وقت يطالب فيه بإبعاد هذه الكأس عنه، بفضل العوامل المحلية في أفغانستان، مثل الانتماءات الدينية والقبلية والانقسامات العرقية والانقسامات الجغرافية التي كانت أحد عوامل أسباب الفشل الغربي في هذه المنطقة.