الجزائر وسوريا وعشريّتهما السوداء
انتهت عشرية الجزائر السوداء بعد انتخاب الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، الذي أقرَّ عدداً من مراسيم العفو التي ساوت بين جميع الضحايا، وأبقت ما بقي من قادة مجموعات إرهابية وتكفيرية في الجبال.
شهد العام 1989 إعلان تأسيس "الجبهة الإسلامية للإنقاذ"، كأوّل حزب رسمي في الجزائر له صبغة دينية، بعد أحداث متسارعة شهدها الشّارع الجزائري، احتجاجاً على البطالة وغلاء المعيشة وقلّة فرص العمل، جراء انخفاض أسعار النفط عالمياً.
استغلَّ اثنان من منظّري الإسلام السياسي هذه الإضرابات، مستندين إلى نشوة الانتصارات التي حققتها حركة "طالبان" في أفغانستان، وقرار الاتحاد السوفياتي سحب قواته منها، إلى جانب علوّ كعب التيارات الدينية في كل من مصر وتونس والأردن، ودخول حركة الإخوان المسلمين إلى عددٍ من البرلمانات العربية.
كما شهدت المرحلة وصول عمر البشير إلى سدة الرئاسة في السودان، مستنداً إلى قاعدة إخوانية، مع بدء صعود تيار الإسلام السياسي في تركيا عبر نجم الدين أربكان، وسبق ذلك انتصار الثورة الإسلامية في إيران. هذا الواقع دفع التيارات الدينية في كلّ الوطن العربي إلى إعادة التموضع من جديد، في محاولة للقبض على دفّة القرار السياسي في عدد من الدول.
بعد السَّماح بتأسيس "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" في الجزائر، وأثناء لقاء المنظّرين الأساسيين للحزب مع كوادره المحلية، أعلن صراحةً رفض قادة الحزب للديمقراطية، بصفتها أفكاراً غربية دخيلة تناقض فكرة الخلافة الإسلامية. حينها، قال عباس مدني: "بالسياسة، ركبنا قطار الديمقراطية للوصول إلى الحكم، وسنقول له وداعاً...".
في العام 1990، حذَّر الرئيس الجزائري حينها الشاذلي بن جديد من إجراء الانتخابات، بناء على توصيات من المؤسَّسة العسكرية والأمنية، ونتيجة لتقييم وتقدير دقيق للأوضاع والظروف الدولية التي ارتفعت فيها شعبية التيارات الإسلامية في المنطقة، مع العلم أنَّ المنظر للجبهة علي بالحاج، وقبل إجراء الانتخابات وزيادة ثقة "جبهة الإنقاذ" بنفسها واتّساع قاعدتها الشعبية، دعا أنصاره إلى حمل السلاح، وقال: "على أعضاء الجبهة التسلّح". وفي مجال السّياسة الفقهية، قال: "كُتب عليكم القتال، وإن ربحنا الانتخابات، فلا بدَّ من حيازة السلاح، لأنَّ السّلطة السياسيّة تحتاج إلى أدوات لحمايتها، وليست الحكومة فقط هي الّتي تحتكر حيازة السّلاح".
مما سبق، يمكن أن نقرأ نيات مبيَّتة منذ البداية للسيطرة على الحكم أو لتفجير صراع دموي في الجزائر، إن لم ينجحوا في ذلك. هذه الأحداث تم الإعداد لها بدقة قبل الحراك الشعبي الذي شهدته المدن الجزائرية، حيث تكفَّل المقاتلون العرب العائدون من أفغانستان بتهيئة الأرضية للبدء بتجهيز المعسكرات ومواقع التدريب في الجبال والقرى النائية، والعمل لإعداد الأرضية لعودة قادة الحراك الشعبي من المدن إلى الأرياف والجبال، إيذاناً ببدء مرحلة العمل المسلَّح بشكل مباشر. بدأت العمليات العسكرية في بداية العام 1992، عبر عدة قوى إرهابية لديها الخبرة والمعرفة والقدرة على إدارة عمليات عسكرية وهجمات دموية تقاسمتها وتبنَّتها كلٌّ من القوى التالية:
- الجناح العسكري لجبهة "الإنقاذ".
- الجماعات الجهادية أو المقاتلون الأفغان، وهم خليط من عدة دول.
- الحركة الإسلامية المسلَّحة التابعة للإخوان المسلمين، وكان عمودها الفقري المصريين والليبيين والتونسيين.
استمرَّ حمام الدم الجزائري حتى العام 1999، عندما أُقرّ قانون الوئام المدني في نيسان/أبريل، ليقرّ معها ميثاق المصالحة الوطنية في العام 2006 بعد التصويت عليه في نهاية العام 2005. العشريَّة السوداء في الجزائر تم استنساخها في سوريا بداية العام 2011. عشريَّة سوريا مخطَّط لها بدقّة. كانت ذريعة التحركات الشعبيّة هي أوضاع ومطالب معيشيّة محقَّة، في مشهد نعيد من خلاله الربط بين دمشق والجزائر، في ما بدا وكأنَّ المخطّط والمموّل والمفتي واحد. بفارق واحد، وهو أنَّ ما تم إعداده لسوريا أضخم وأكبر وأوسع وأكثر تنظيماً، إلى جانب تمويل ضخم نُفّذ بدقّة عالية عما كان عليه في الجزائر.
في بداية العام 2011، بدأ الحراك السّوري. وللدلالة أكثر على ترابط العشريتين، نلاحظ أنه، وبعد شهر واحد فقط من الأحداث السورية، أُعلِن تشكيل تنظيم عسكري تحت مُسمى "أحرار الشام" من مجموعة من المقاتلين المتمرسين القادمين من الجزائر. وكانت أهم الأسماء: "أبو سارية الشرعي، وأبو خالد السوري، وأبو مصعب السوري، وأبو مرتضى الجزائري، وأبو مرتضى المصري، وأبو يزن الشامي القائد العسكري في حلب، وأبو عبد الملك الشرعي العام، وأبو قتادة الفلسطيني الذي كان يقيم في لندن، ومحمد العبدولي، وأبو طلحة المخزومي، وأبو يوسف بنش".
قبل بداية "الربيع العربي"، افتتحت عدة معسكرات تدريبية في ليبيا. وقد تنقّل خلال هذه الفترة القائد العسكري الليبيي في الحركات الإسلامية عبد الحكيم بلحاج، "قائد المجلس العسكري في طرابلس، وأمير الجماعات الإسلامية الليبية المقاتلة"، بين تركيا والجزائر وتونس، وعمل على استقطاب المقاتلين إلى ليبيا. وكان عنتر الزوباري المرشد الروحي لهذه المجموعات.
كما نلاحظ من خلال متابعة أبو سارية الشرعي في فترة بداية الأحداث السورية، أنه كان يتكلَّم عن التجربة الجزائرية أثناء خطب الجمعة والاجتماعات الدينية مع منتسبي المعسكرات في أرياف إدلب. وكان للمقاتلين القادمين من الجزائر وليبيا وتونس الدور الطليعي في تنفيذ المجازر وعمليات القتل في سوريا منذ الأيام الأولى لبدء الحراك فيها، لتحريض السوريين وتشجيعهم على ارتكاب المجازر، وكسر الحواجز أمام أبناء القرية الواحدة والعائلة الواحدة، لارتكاب المجازر في ما بينهم.
في أيلول/سبتمبر 2014، وبعد 3 سنوات على بدء الحرب السورية، قُتل هؤلاء القادة في تفجير مقرّ "أحرار الشام" في قرية رام حمدان. حتى الآن، لم تتبنَّ أيّ جهة المسؤولية عنها، وبالتالي طُمس تاريخ عدد كبير من القادة الذين كان لهم دور كبير في العشرية السوداء في الجزائر واستنساخ التجربة في سوريا. ومعهم، طمست الكثير من الحقائق والمعلومات عما أحيك للعاصمتين العربيتين اللتين شكَّلتا حاضنة القضيّة الفلسطينيّة.
مع مقتل قادة "أحرار الشام"، بدأ مخطّط جديد لسوريا، يركّز على تعويم هيئة "تحرير الشام" أو ما يُسمى جبهة "النصرة" في المحافظات السورية الغربية، في حين تُرِك مصير المحافظات الشرقية لتنظيم "داعش"، الذي بدأ يتمدَّد بشكل سريع بين سوريا والعراق.
عمليات القتل والإحراق وبقر البطون وملاحقة عناصر الجيش والأمن والموظفين المؤيدين للدولة الجزائرية، طُبِّقت بحذافيرها، وبحرفية أكثر، وعلى الأشخاص نفسهم في سوريا، حتى تم تقسيم الولايات في الجزائر وأرقام السيارات التي تعرف بها المحافظات في الجزائر، كما في سوريا أيضاً، على أساس الولاء أو التأييد للدولة. وكانت عمليات القتل تتم وفقاً لأرقام سيارات المحافظات، كما كان يحدث لأبناء حلب وطرطوس واللاذقية، حيث تتمّ تصفيتهم على الطرقات العامة وفقاً لأرقام السيارات التي يستخدمونها ...
استنساخ التّجربة رافقه تَطابُق تصريحات قادة المسلَّحين في الجزائر مع أقرانهم في سوريا؛ فدعوة عنتر زوباري، القائد العسكري لجبهة الإنقاذ، إلى خيار دعم مجموعاته المسلَّحة أو الموت ومصادرة الأموال وخطف نساء الرافضين لذلك، ليصل إلى إباحة قتل الأطفال وسبي نساء، مشهد مطابق تماماً لتدرّج الأحداث السورية، فكانت المجازر في قرى اللاذقية خير تطبيق لهذه الفتاوى التكفيرية.
انتهت عشرية الجزائر السوداء بعد انتخاب الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، الذي أقرَّ عدداً من مراسيم العفو التي ساوت بين جميع الضحايا، وأبقت ما بقي من قادة مجموعات إرهابية وتكفيرية في الجبال. لم تُقبل توبتهم، ولم يُسمح لهم بالعودة إلى صفوف الشعب والمجتمع الجزائري. بقي الجيش الجزائري يتابع مهامه الوطنية في ملاحقة فلول هؤلاء القتلة والمجرمين، وأُغلِق تدريجياً، وخلال سنوات، ملفّ العشرية السّوداء في الجزائر.
سيناريو الجزائر وانتهاء العشرية السوداء فيها يفتح أمام المتابع للشأن السوري أبواب التساؤل عن عشرية سوريا، وما إذا كان انتخاب الرئيس السوري بشار الأسد مجدداً بوابة لإغلاق هذه الحقبة السوداء من تاريخ البلاد خلال الأسابيع والأشهر القادمة.