الانتخابات توقّفت في الولايات المتحدة ولم تتوقّف في إيران
من حق إيران أن تَصُوغ ديمقراطيتها الخاصّة، على اعتبار أن الديمقراطية ليست مصطلحاً مجرَّداً، ولا يستطيع العيش من دون صفة.
خلال الحرب العالمية الثانية، توقّفت الولايات المتحدة الأميركية، التي تصدِّر نفسها للعالم كأُمّ الديمقراطيات، عن إجراء العملية الانتخابية. حكم روزفلت 12 عاماً، منذ عام 1933م إلى عام 1945م. آنذاك، استثمرت الولايات المتحدة التعريفات المتعلقة بالحرب. فكثيراً ما تنزع الأنظمة الرسمية في العالم إلى التركيز على مفاهيم "اقتصاد الحرب"، لتبرير الواقع السيئ، وتكريسه أحياناً، أو إلى التركيز على "ديمقراطية الحرب"، لتبرير العزوف عن الإجراء الانتخابي.
في سكة مغايرة تماماً، سارت إيران، التي لم تُوقف إجراء انتخاباتها حتى في ظل حرب طاحنة حرَّكها الغرب ضدها، وكانت آثارها عملياً تزيد على آثار الحرب العالمية الثانية في الولايات المتحدة، التي استثمرت في تضحيات السوفيات، واحتلال باريس، وشهوة بريطانيا كي تحصل على النتائج السياسية الأفضل منها جميعاً (يعتبر بعضُ التقديرات أن عدد المدنيين الأميركيين الذين قُتِلوا، لم يتجاوزْ 2000، بالإضافة إلى 416 ألف عسكري، مقارنة بالاتحاد السوفياتي الذي وصل عدد قتلاه المدنيين، في أقل التقديرات، إلى 14 مليون إنسان، ومع العسكريين، يصل الرقم إلى 24 مليوناً).
هي مقاربة بسيطة قد لا تروق لمن نصَّب نفسه عينَ الرقابة على الديمقراطية في العالم (democracy monitor). إيران (بعدد سكان 40 مليوناً، بداية الحرب)، خسرت من أهلها 183 ألف إنسان (بحسب أقلّ تقديرات التقارير)، ومليون إنسان (بحسب أكثرها)، لكنها لم تُعطِ ديمقراطيتَها إجازةً مبرَّرة، واستمرت في انتخاباتها. أمّا الولايات المتحدة (بعدد سكان 130 مليون بداية الحرب)، ففضَّلت السير في نموذج الأحكام العرفية خلال الحرب، أو ما يمكن أن نسميه "ديمقراطية الحرب".
إيران، خلال الحرب، تحاكم الرئيس وتعزله استناداً إلى أدائه في الحرب (نتحدث هنا عن أبي الحسن بني صدر)، وتناقش تعديلات في الدستور، وتنتخب رئيساً للجمهورية خامنئي، الذي يتعايَش، خلال جولتين رئاسيتين، مع رئيس وزراء بعيد عنه أيديولوجياً (مير حسين موسوي). كل ذلك كان يحدث في مناخات الحرب، وتحت ضغطها. لكنّ العملية الديمقراطية مستمرة. هذا هو ببساطة الدرس الإيراني، الذي يجدر بالولايات المتحدة الاستفادة منه، في حال تعرُّضها لحرب جديدة، أو حتى لأزمة جديدة، يوماً ما.
الديمقراطية والثوابت
يحاول الغرب توصيف الانتخابات الإيرانية، كأنها غريبة، تسير وفق قواعد مُغايرة لطبيعة الأنظمة الانتخابية الأُخرى. ولا يطال حديث مشابه الولايات المتحدة، التي تتعرّض لانتقادات حادّة بشأن نموذج النقاط الذي تتبنّاه، والذي فرض تاريخاً طويلاً من رؤساء مركَّزين في 4 ولايات. كما لا يطال حديثٌ مشابه نموذج الكلية الانتخابية، كإفراز لنموذج النقاط غير العادل.
خلف قوانين الانتخاب التي تقرّها كل دولة في العالم، نموذجها الخاص في الإدارة، وثوابتها التي لا ترغب في تحطيمها (يطال ذلك، في المناسبة، جميع نماذج الديمقراطية في التاريخ، بما فيها الديمقراطية اليونانية التاريخية). ولمزيد من التوضيح، سنتحدث عن نماذج أكثر معاصَرة، كالاتحاد السوفياتي عندما اختار نموذج مجالس السوفياتات، فانطلق من القاعدة الأهم في النموذج الذي قدمه، وهي "مصالح العمال". وتمّت إعادة صياغة هذا النموذج مع متطبات الدولة الروسية الحديثة بقيادة بوتين، والتي كانت مهمة إعادة هيبة الدولة على رأس أولوياتها، بعد الانهيار والتفكيك، فبرز عنوان الديمقراطية السيادية؛ أي الاختيار، على نحو لا يضرّ مبدأ السيادة.
تشافيز في فنزويلا نَحَتَ نموذجه الخاص متمثِّلاً بـ"الديمقراطية التشاركية"، التي تُعنى بإشراك اللجان والمجتمعات المحلية، ليس فقط في صياغة القرارات، وإنما في تنفيذها أيضاً. وفي ذلك محاولة لتجنّب نموذج الديمقراطية الموسمية، التي تتحرّك فقط في مواسم الانتخابات.
تنطلق الديمقراطية الأميركية من قاعدتها الأهم؛ أي الاختيار في إطار نظام رأس المال، بحيث يمكن للأميركيين الاختيار من دون الابتعاد عن النموذج الذي كرّسته نتائج الحرب العالمية الثانية. لقد بدا ذلك واضحاً في حجم الاستهجان الذي تعرّضت له أطروحات بيرني ساندرز، المنخفضة السقف أساساً، في اعتبارها تغريداً خارج السياق العام للنموذج الأميركي. في هذا الإطار التاريخي، من حق إيران أن تَصُوغ ديمقراطيتها الخاصّة، على اعتبار أن الديمقراطية ليست مصطلحاً مجرَّداً، ولا يستطيع العيش من دون صفة؛ من حقّها أن تَحُوك نموذجها الخاص، على نحو يتلاءَم مع ثوابت ثورتها والخطوط الحُمْر لاستقلالها وسيادتها. هذا هو المناخ الطبيعي للديمقراطية، والذي لم يشهد التاريخ شيئاً مُغايراً له (الديمقراطية الملحَقة بسِمَة النظام والمجتمع؛ الديمقراطية داخل إطار إنجازات الدولة وأهدافها الاستراتيجية).
استناداً إلى تعريف الديمقراطية، على هذه الشاكلة، تختار إيران من أين تبدأ: من تفكيك العقوبات، أو من سياسات تخفيف أثرها ومواجهتها، أو من الاتفاق النووي. لكنها لا تطرح – مجتمعياً في الأساس، كما النظام – خِيار الاستسلام. وهنا يكمن منبع الغيظ الأميركي من هذا الشكل من الديمقراطية، وإطار الثوابت الذي يحيط به، والذي يُجمع عليه الناس هناك.
في سباق الانتخابات الإيرانية، وبعد إعلان مجلس صيانة الدستور عدمَ منح بعض المرشحين الأهليةَ لخوضها، بحثت وسائل إعلام الغرب والخليج عن تصريحات محدَّدة. حاولت، بأي طريقة، أن تنتزعها من فم مرشح، أو عنه. التصريحات المتخيَّلة، المرغوب فيها، والمُتَمَنّاة، تدور في فلك الدعوة إلى المقاطعة، أو أسباب المقاطعة، وتوجيهها كي تَمَسّ بنية النظام (محاولة الحديث عن "اختراق" في بنية النظام؛ محاولة التشكيك في بروتوكولات منح الأهلية للترشح؛ إلخ).
تمسَّك لاريجاني بخيار المشاركة، ودعا الناس إلى التوجُّه إلى صناديق الاقتراع، وأدلى هو بصوته. انسحب جليلي بإرادته لمصلحة إبراهيم رئيسي. لم يتمكّن الإعلاميون الحاذقون من انتزاع تصريح مشتهىً، لأنهم، ببساطة، حاولوا المساس بما اتَّفق عليه الإيرانيون جميعاً، في مجتمعهم ودولتهم!
إيران تنحاز دائماً إلى استقلاليتها. هي لا تنتظر معونة أميركية لتأسيس هيئة تُشرف على انتخاباتها، كما أنها لا تبحث، تائهةً، عن "الكاتالوغ الأميركي" في اختيار مَن يحكمها. وها هي، اليوم، اختارت نهجها المتمثِّل بإبراهيم رئيسي: رئيساً يقود مراحل الصعود المتلاحقة، والمقبلة.