بايدن والأرمن.. الثعلبُ واعظاً
لا يحق للولايات المتحدة الأميركية أن تُعطي نصائح في الأخلاق والإنسانية، كما لا يحق للثعلب أن يعظ غيره.
قصيدة "الثعلب والديك" لأمير الشعراء أحمد شوقي هي حكاية شعرية قصيرة وبسيطة ورمزية، مطلعها خدعة من الثعلب لاستدراج الديك وافتراسه:
برزَ الثعلبُ يوماً في ثياب الواعظينا
فمشى في الأرضِ يهدي ويسبُ الماكرينا
وختامها حكمة ذهبت مثلاً:
مُخطئٌ منْ ظنَّ يوماً أنَّ للثعلبِ ديناً
يرمزُ الثعلب في القصيدة إلى الاستعمار، بينما يرمز الديكُ إلى الشعوبِ المعرّضة للاستعمار، والهدف منها تحذير الشعوب من مكر الاستعمار، وعدم الانخداع بما يلبسه من أقنعةٍ جميلة تُخفي وراءها وجوهاً قبيحة، والحكمة: مُخطئٌ منْ ظنَّ يوماً أنَّ للاستعمارِ قيماً أخلاقية ومبادئ إنسانية، سواء الاستعمار الأوروبي القديم أو الاستعمار الأميركي الجديد.
ومنْ أمثلة ذلك، تباكي الاستعمار الغربي على الضحايا اليهود في الحرب العالمية الثانية، والضحايا الأرمن في الحرب العالمية الأولى، في الوقت الذي يتجاهل الضحايا العرب والمسلمين في كفاحهم ضد الاستعمار. آخر هذا المسلسل تبرير الاستعمار الأميركي على لسان الرئيس جو بايدن، وعدم إدانته مذابح الكيان الصهيوني بحقّ الشعب الفلسطيني في معركة "سيف القدس".
صورة الثعلب واعظاً تجسَّدت في بيان الرئيس الأميركي جو بايدن الخاص بالأرمن، الذي اعتبر أن الأحداث التي وقعت معهم أثناء الحرب العالمية الأولى وبعدها في الدولة العثمانية، والتي تسبَّبت في تهجير وموت مئات الآلاف منهم، بمثابة إبادة جماعية نفذتها الدولة التركية العثمانية، فقال: "الأميركيون يكرّمون جميع الأرمن الَّذين لقوا حتفهم في الإبادة التي وقعت قبل 106 أعوام".
وبذلك، انضمَّت الولايات المتحدة الأميركية إلى حوالى 30 دولة أخرى في العالم تعترف بالإبادة الجماعية للأرمن، ولكلّ منها أسبابه الخاصة، آخرها التمسك بالحقيقة، منها أرمينيا، واليونان، وقبرص، وروسيا، وفرنسا، وألمانيا، ولبنان، وسوريا، فيما أمسكت "إسرائيل" العصا من النّصف، حفاظاً على علاقتها بأرمينيا وتركيا معاً، فوصفت مأساة الأرمن بـ"المأساة الرهيبة"، من دون أنْ تصل إلى درجة تسميتها بـ"الإبادة الجماعية".
بين تسمية معاناة الأرمن بالمأساة الرهيبة أو الإبادة الجماعية، غابت الرواية المُحايدة لمعاناتهم، وحضرت روايتان مختلفتان. الرواية التركية تقول إنَّ عدد الضحايا 300 ألف أرميني، قُتلوا وماتوا بسبب الحرب والصراع والأوبئة والمجاعات، كما قُتل ومات غيرهم من مواطني الدولة من كل الأديان والأعراق، وهي تعترف بعمليات التهجير القسري للأرمن من إقليم الأناضول، ولكنها تُبرره بتمرّدهم وتعاونهم مع العدو الروسي الغازي، وقيام عصاباتهم المُسلّحة بقتل سكان الأناضول المسلمين وتهجيرهم، وتعترف بوقوع عمليات القتل، ولكنّها تعتبرها نتيجة للصراع، ومن دون أوامر حكومية أو خطة للدولة.
والرواية الأرمينية تقول إنَّ عدد الضحايا يبلغ 1,5 مليون أرميني، قتلوا وماتوا بسبب خطة وأوامر من حكومة تركيا الفتاة. وقد تواصلت مع الحكومة الكمالية، في إطار مشروع التتريك ذي المسارين؛ تتريك المسلمين غير الأتراك، وإبادة المسيحيين غير الأتراك (الأرمن). وبذلك، يكون ما حدث هو عملية تطهير عرقي وإبادة جماعية وفق معايير الأمم المتحدة.
إن الاختلاف بين الروايتين التركية والأرمينية حول مأساة الأرمن يقتضي البحث في تعريف الإبادة الجماعية، وفق مرجعية الأمم المتحدة التي وضعت معايير مُحددة للمفهوم، عندما اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام 1948 اتفاقية منع عمليات الإبادة الجماعية وتجريمها، واعتبرتها جزءاً من القانون الدولي المُلزم لجميع الدول؛ ففي المادة الثانية للاتفاقية، اعتبرت الإبادة الجماعية أياً من الأفعال المرتكبة بقصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية، وحددت 5 معايير لذلك، هي: قتل أعضاء من الجماعة، وإلحاق أذى جسدي أو روحي خطِر بأعضائها، وإخضاعها عمداً لظروف معيشية يُراد بها تدميرها المادي كلياً أو جزئياً، وفرض تدابير تستهدف المسؤول دون إنجاب أطفال داخلها، ونقل أطفال منها عنوةً إلى جماعة أخرى.
الإبادة الجماعية، وفق هذا المفهوم الدولي، تنطبق على الجرائم التي ارتكبتها الولايات المتحدة الأميركية في سياستها تجاه كثير من شعوب الأرض، بدءاً بإبادة السكان الأصليين للبلاد التي احتلّوها واستوطنوها وسموها "أميركا"، وأطلقوا على سكانها اسم "الهنود الحمر".
وبحسب الباحث منير العكش في كتابه "أميركا والإبادة الجماعية"، إنَّ الفكرة التي أدَّت إلى إبادة أكثر من 100 مليون إنسان بمختلف الطرق الوحشية على يد الغزاة الأوروبيين المسيحيين، هي حقّ شعب الله المختار في التضحية بالآخر، وحقّ استبدال شعب بشعب وثقافة بثقافة، وهي الفكرة نفسها التي دفعت الغزاة الأوروبيين اليهود إلى اغتصاب فلسطين، نظراً إلى ارتوائهم من حضارة عنصرية استعلائية استعمارية واحدة. أيضاً جريمة استعباد ملايين الأفارقة بعد أسرهم وانتزاعهم من بلادهم على مدار عشرات السنين، في جريمة أدت إلى إبادة 50 مليون أفريقي أثناء اصطيادهم في أدغال أفريقيا أو نقلهم بالسفن في ظروف بغاية القسوة عبر المحيط الأطلنطي.
وقد صوّر أليكس هايلي تلك المأساة في كتابه "الجذور"، فوصف معاناة أجداده منذ اصطيادهم من بلادهم، مروراً بمعاناة نقلهم بالسفن، وصولاً إلى حياة العبودية القاسية... تلك المعاناة التي استمرَّت حتى بعد تحرير العبيد في العام 1863م، بسبب قوانين التمييز العنصري التي ظلّت تجلد الأفارقة 100 سنة أخرى.
جريمتا إبادة سكان أميركا الأصليين واستعباد الأفارقة استمرّتا مئات السنين، ولكن جريمة إبادة ربع مليون إنسان ياباني في نهاية الحرب العالمية الثانية حدثت بضربة واحدة على مرحلتين، بفاصل 3 أيام، بين إلقاء القنبلة الذرية الأولى على مدينة هيروشيما، والقنبلة الذرية الثانية على مدينة ناغازاكي، وهي الجريمة الحصرية لأميركا، التي لم يسبقها فيها أحد من العالمين، لما أحدثته من إزهاق للأرواح، ومعاناة للأحياء، وتدمير للبيئة، وخراب للعمران.
وقد تواصلت جرائم الإبادة الجماعية الأميركية بوسائل شتى، منها الحروب العدوانية على دول العالم، مثل الفيليبين وفيتنام وأفغانستان وغيرها، والحصار الاقتصادي لدول أخرى، مثل كوبا وكوريا وإيران وغيرها، ودعم الأنظمة الديكتاتورية الفاسدة في دول "العالم الثالث"، وإطلاق يد حركات تكفيرية متوحّشة في دول معينة، مثل سوريا والعراق، ودعم الكيان الصهيوني في جميع حروبه العدوانية.
بعد كلِّ جرائم الإبادة الجماعية الأميركيّة ضدّ سكّان أميركا الأصليين، والأفارقة، والشعب الياباني، والشعوب التي غزتها أو حاصرتها أو دعمت جلاديها أو ساندت مستوطنيها المحتلين... لا يحق للولايات المتحدة الأميركية أن تُعطي نصائح في الأخلاق والإنسانية، كما لا يحق للثعلب أن يعظ غيره.
وقد صدق أمير الشعراء أحمد شوقي عندما ختم قصيدته "الثعلب والديك" قائلاً:
بلّــــغ الثعـلـــــب عنـــــي عـــــن جــــــدودي الصالحينـــــــا
إنهـــــم قالـــــوا خيـــــر القـــــــــولِ قــــــول العارفينـــــــــــا
مُخطـــــئٌ مــــنْ ظـــــنَّ يومـــــاً أنَّ للثعــلــــــب دينــــــــــــاً