الانتخابات التشريعيَّة في الجزائر.. التحدّيات والفرص
يُقام هذا الاستحقاق في إطار تحول ديمقراطي كبير بعد انتخاب رئيس جمهورية وحدوث تعديلات دستورية محورية، ويأتي في ظلِّ مناخ سياسيّ ملتهب ومعقّد، مع تجدّد مسيرات الحراك الشعبي الرافض لخارطة الطريق وما يترتَّب عليها.
تفصلنا ساعات عن الانتخابات التشريعية في الجزائر، وهي الخطوة الأهم في سياق استكمال خارطة الطريق في البلاد، إذ تقام في ظل ظروف استنثنائية تشهدها الحياة السياسية، ويطمح فيها الجزائريون إلى نظام سياسي جديد يجسّد الحالة الثورية ويلبّي نداء الحراك الشعبي الَّذي اندلع في 22 شباط/فبراير 2019.
يُقام هذا الاستحقاق في إطار تحول ديمقراطي كبير بعد انتخاب رئيس جمهورية وحدوث تعديلات دستورية محورية، ويأتي في ظلِّ مناخ سياسيّ ملتهب ومعقّد، مع تجدّد مسيرات الحراك الشعبي الرافض لخارطة الطريق وما يترتَّب عليها، وسط جدل واسع داخل الأطر السياسية والحزبية والشعبية حول مشروعية السلطة القائمة.
هذا الجدل الدائر يدفع السّلطة القائمة، وعلى رأسها الرئيس المنتخب عبد المجيد تبون، إلى الاستعجال في الانتقال من مرحلة الشرعية الثورية إلى مرحلة الشرعية الدستورية والقانونية. وقد جاء قرار الدّعوة إلى انتخابات تشريعيّة مبكرة بعد حلّ المجلس وصدور القانون الَّذي اعتمد نظام القائمات المفتوحة والنسبية في اختيار المرشحين، من دون حزمة القيود التي رافقت المجالس النيابية السابقة، ما سمح بتمثيل إيجابيّ وكبير للشباب ما دون الأربعين عاماً.
وبالنّظر إلى هذا القانون وظروف المرحلة، فإنّه يعزّز فرص القائمات الحرة والقوى الجديدة التي يمكن أن تعلن عن نفسها من رحم الحراك الشعبي على حساب القوى والأحزاب التقليدية التي لم تحظَ بقبول جماهيريّ، وهو ما يستبعد تماماً وجود قائمة تمتلك الأغلبية المطلقة، إذ يبقى شكل القوى الجديدة رهن التحالفات بعد الانتخابات.
ولأنَّ المرحلة مفصلية في تاريخ البلاد، وستتحدّد في إثرها العقيدة السياسية الحاكمة وتوجهات السلطة الجديدة الناتجة من هذا التحول الديمقراطي، فلا بدَّ من دراسة طبيعتها وتحدياتها، وخصوصاً أنَّ الجزائر الَّتي عرفت أول تجربة انتخابية تعددية قبل أكثر من 30 عاماً، والتي انتهت بدخول البلاد في أزمة سياسيّة وأمنيّة دامت أكثر من 10 سنوات، دفعت كلفة باهظة ثمناً لها. ولكي تتفادى البلاد أيّ مخاطر جديدة، لا بدَّ من أن تدرك حزمة التحديات التي تنتظرها.
التحدّي الأوّل
استمرار مسيرات الحراك الشعبي وعودتها من جديد بعد توقفها قرابة عام بسبب كورونا. وعلى الرغم من أنها كانت تنظّم بأعداد قليلة، فإنها ما زالت ترفع شعارات التغيير وعدم الرضا على كامل المسار، إذ كرّر مشاركون في مسيرات الجمعة 108، وهو اليوم الثاني لإعلان موعد الانتخابات التشريعية، رفضهم خارطة الطريق التي بدأت منذ الانتخابات الرئاسية في 12 كانون الأول/ديسمبر 2019 واستفتاء التعديلات الدستورية في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي.
يتزعَّم الحراك تياران؛ الأوَّل يطالب بالتغيير الجذري الشامل للمنظومة الحاكمة وما يترتّب عليه من تركيبة النظام الحالي، ويرفض قطعاً مقترحات السّلطة، ويطالب بحلّ كلّ المؤسَّسات والذهاب إلى مؤتمر تأسيسيّ ينتج منه دستور جديد للبلاد، يفضي إلى نظام سياسي ديمقراطي جديد.
التيار الآخر يميل إلى إصلاح الوضع القائم، ويقترح مشروعاً سياسياً ومقترحات يمكن التفاوض والاتفاق عليها، مثل الإقرار بمشروعية السّلطة الجديدة.
التحدي الثاني
نسبة المشاركة في الانتخابات التشريعيَّة. من الطّبيعيّ في مثل هذه المراحل أن لا تُقاس شرعية أيّ سلطة تأتي بعد تغيرات جذرية بمدى مطابقتها دستورياً وقانونياً، بقدر ما تُقاس بمشروعيتها الأخلاقية والمجتمعية المستمدّة من الضمير الشعبي ومدى رضاه على مسار المرحلة. وبالتالي إنَّ نسبة المشاركة تمثّل مدى مشروعيّة السّلطة. وهنا، يأتي التحدّي في ظلِّ تراجع نسبة المشاركة الأخيرة في الاستفتاء على التعديلات الدستورية، والتي جاءت بنسبة 23.7%، وكانت الأضعف في تاريخ البلاد.
ويتوقّع الكثيرون ضعف المشاركة لعدّة أسباب:
1- دعوة أحزاب وقوى عديدة إلى مقاطعة الانتخابات، وعلى رأسها حزب القوى الاشتراكية "الأفافاس"، أقدم الأحزاب السياسية، والمجلس الوطني للتجمع من أجل الثقافة والديمقراطية "الأرسيدي".
وقد جاءت دعوتهم إلى المقاطعة بسبب عدم توفر ضمانات بنزاهة العمليّة الانتخابيَّة، فضلاً عن غياب المناخ السياسيّ المناسب، في ظلِّ استمرار الحراك الشّعبي والانطلاق من الالتزام السياسيّ معه، لكونها بقيت رهينة لحسابات الشارع، ولا يجوز تجاوز اللحظة الثورية، مع الأخذ بالاعتبار أن تلك المقاطعة هي في الحقيقة إنقاذ سياسي لها، بعد تآكل بيئتها الحاضنة ومقاطعة بعض الدوائر، مثل القبائل التابعة لـ"الأرسيدي" ومناطق داخل العاصمة.
2- موجة الغلاء والسّخط الشعبي على الوضع الاقتصادي، واتهام السلطة بفشلها في معالجة هذا الملف تحديداً.
3- الشعور بأنَّ البرلمان مجرّد مؤسَّسة وواجهة فقط لدى الفرد.
وعلينا هنا إدراك حقيقة أنّ المقاطعة فعل متأصّل في السلوك الاجتماعي الجزائري، بسبب فقدان الثقة بالسلطة لسنوات طويلة.
التحدّي الثالث
يتمثّل في قوّة الدولة العميقة في الجزائر. وهنا، أقصد أجهزة الحكم غير المنتخبة، والمتمثلة في المؤسسات العسكرية أو البيروقراطية الأمنية، والتي تكوَّنت لهدف مشترك، هو الحفاظ على تماسك الدولة المركزية وهُوية الدولة الوطنية، وخصوصاً بعد أن تعرَّضت الجزائر لموجات الإرهاب في التسعينيات.
وعلى الرغم من مبرّرات نشأة الدّولة العميقة، وهي في بدايتها دوافع وطنية ضد محاولات العبث بمصير بلد عربي كبير له ثقله الإقليميّ، فقد تخلّلت هذه الدولة مجموعات مصالح كبيرة شكّلت لوبيات داخل المؤسَّسات، للحفاظ على مكتسباتها غير المشروعة، ما أفقد ثقة الجماهير بها، بفعل ترهّلها واتهامها بالفساد.
هذه الدّولة هي التي رشَّحت بوتفليقة للعهد الرابع، علماً أنَّها تدرك أنَّه مريض جداً. وبعد أن ضيّعت 5 سنوات من حياة الشعب، أرادت ترشيحه لعهد خامس، وهو القطرة التي أفاضت كأس غضب الشّعب الجزائريّ، ما سرع خروجه من الحفرة التي دُفن فيها طيلة سنوات طويلة… وقد تصادمت مع طموحات الحراك الشعبيّ والمطلبيّ، وحاولت شيطنته، حتى لا تخرج قوى ثورية تعتزم الإسراع في إنهاء دورها؛ ففلسفة الدّولة العميقة التي تتكوّن شبكاتها في عقود طويلة لا تسمح أبداً بأن تقضي على نفسها، بل إنَّها تمثّل أحياناً في مضمونها الثورة المضادة لإعادة تموضعها من جديد.
إنَّ الدولة العميقة خلقت الدولة الموازية لأيّ نظام سياسي قائم، وبالتالي سيستمرّ صراع من نوع آخر داخل أجهزة الدولة ومؤسساتها حول عملية التغيير الحقيقي واسترداد الدولة وقرارها الذي ينحاز إلى الإرادة الشعبية.
التحدّي الرابع
غياب التوافق الوطني بين القوى الوطنية، وطرح مشروع سياسي موحّد يناسب المرحلة ومتطلّباتها، فما زال الحراك يعيش مرحلة سيولة جديدة وتخبّط كبير في الرؤى، تصل إلى درجة التناقض أحياناً في الأهداف، الأمر الَّذي أحبط الكثير، وأضعف الحراك وموقفه.
وعلى الرغم من جملة التحدّيات التي تواجه الجزائر في هذه المرحلة التاريخية الصعبة، فإنَّ هناك فرصاً عظيمة، تتمثل في اكتشاف الشعب لنفسه وإدراك قيمته التاريخية النضالية، الأمر الذي دفعه إلى استرداد دولته من خاطفيها ووعيه بضرورة التغيير.
ومع تزايد الوعي الشّعبي والتعبير الحضاريّ في الفترة الأخيرة، وهو في الحقيقة فرصة عظيمة أمام تقدّمية المشهد ككلّ، استجابت قطاعات كبيرة للحوار الوطني، وأدرك الجزء الأكبر من الحراك أنّ الحل ليس بالمواجهة مع السلطة، خوفاً من تكرار سيناريو الماضي والقلق من توسيع دوائر الفراغ، مستحضراً في ذهنه ما حدث في بلدان عربية شقيقة، والوعي بخطورة القفز إلى المجهول.
وفي إثر ذلك، تعالت أصوات دعم المؤسَّسات، وخصوصاً بعد إعلان الرئيس تبون حلّ المجلس الشعبي والدعوة إلى الانتخابات، رافعاً شعار الجزائر الجديد، وهو ما انعكس إيجابياً في ملفات عديدة، كالحريات. وتمَّ بالفعل الإفراج عن سجناء الرأي وإعطاء مساحة من التعبير السياسي والسماح بتشكّل المنصات والأحزاب السياسية من دون عقبات أو عراقيل.
وفي ملفّ الفساد، عزم الرئيس على محاربة الفساد. وبفضل الحراك، تمكَّن الجيش من تفكيك المنظومة الاقتصادية الاحتكارية بشكل ملحوظ. إذاً، نحن أمام مفترق طرق في هذه اللحظة الصّعبة في تاريخ الجزائر، فإما أن تضفي الانتخابات مشروعية شعبية على النظام القائم وخارطة الطريق، وإما تنتظر الجزائر جولات أخرى تشكّل مقدمة لمشهد جديد يتمثّل في البحث عن سلطة بديلة، أملاً بأن تحظى بتوافق شعبيّ واسع.
في النهاية، الجزائر دولة مركزيَّة مؤثّرة تؤدي دوراً محورياً في محيطها العربي والإقليمي. وبقدر دورها ومكانتها، فإن المؤامرات تحيط بها في الداخل والخارج؛ فعينٌ على المخاطر، والعين الأخرى على مصير شعبها وطموحاته في مستقبل يليق ببلاده.