القلق الإسرائيلي: فقدان الشرعية الدولية!
إن صياغة استراتيجيتين، إعلامية وسياسية، تبدو ضرورة ملحة، وخصوصاً أن الإسرائيليين يخشون أن تتحوّل المقاومة من استراتيجية تدمير "إسرائيل" إلى استراتيجية انهيارها من الداخل.
كان التأييد، الذي حظيت به القضية الفلسطينية مؤخَّراً، غيرَ مسبوق عالمياً، وخصوصاً في الولايات المتحدة الأميركية، حيث شهد عددٌ من الولايات تظاهرات مؤيدة لفلسطين، وعلت أصوات في الكونغرس الأميركي تطالب بمنع "إسرائيل" من ضمّ الأحياء الفلسطينية في القدس المحتلة، وإيقاف معاناة الفلسطينيين.
وكتب السناتور بيرني ساندرز مقالَ رأي في صحيفة "نيويورك تايمز" يدعو الأميركيين إلى عدم خلق الذرائع لتأييد "إسرائيل"، فالفوضى التي اندلعت في الأسابيع الأخيرة كانت بسبب الاستفزازات التي قام بها المتطرفون اليهود في القدس المحتلة، ونتيجة المحاولات غير القانونية الإسرائيلية لإجلاء السكان الفلسطينيين قسراً من أحد أحياء المدينة المقدسة.
لا شكّ في أن داعمي فلسطين استفادوا من انتشار الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي والإعلام الفضائي، وعدم القدرة على احتكار الخبر والصورة، وهو ما ساهم في خلق رأي عام عالمي مساند لحق الشعب الفلسطيني، وكاشفٍ حَجمَ المجازر التي اقترفتها "إسرائيل".
كي لا نُفْرِط في التفاؤل بشأن هذه الظاهرة، ولأن دروس التاريخ تعلّمنا بأنه حين تقاعس العرب والفلسطينيون عن الاستثمار في حركات التأييد تلك، والبناء عليها ورفدها بالتقارير الدائمة، قامت "إسرائيل" بحملات هجومية مرتدة، إعلامياً وسياسياً ودبلوماسياً، تقلّص حجم دعم الرأي العام العالمي المؤيد لفلسطين.
منذ البدايات، استطاعت الحركة الصهيونية العالمية ترويج روايتها المزوَّرة، في ما بتعلّق بحقّ مزعوم في فلسطين، واستطاعت أن تطوّق الرأي العام الدولي بأكاذيبها وتضليلها، لتُحْدِث شروخاً عميقة في حركة التضامن العالمية مع الشعب الفلسطيني وقضيته، بهدف نزع مشروعية الكفاح المسلَّح الفلسطيني، ووصمه بالعمل "التخريبي" أو "الإرهابي".
وحتى عندما نجحت نضالات الشعب الفلسطيني في انتزاع اعتراف عالمي بمقاومته، وباعتبار الصهيونية مرادفاً للعنصرية، تحرَّكت الآلتان الإعلامية والسياسية الصهيونيتان، والقوى المساندة لـ"إسرائيل"، على المسرح الدولي، وخصوصاً الولايات المتحدة، لتفريغ هذا الاعتراف من محتواه الإيجابي، ولإلغاء قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة ذي الرقم 3379، باعتبار الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية.
وكي يستطيع الفلسطينيون الاستثمار في ما تحقَّق والبناء المستقبلي على حملات التضامن مع قضيتهم، وللوصول إلى مساحة تفقد فيها "إسرائيل" شرعيتها الدولية، الأمر الذي يُفقدها أحد أهمّ أركان قوتها، لا بد لنا من إدراك أن التيارات المساندة لفلسطين هي مزيج فسيفسائي يحمل تنوُّعاً في المنطلقات ووسائل التعبير والمفردات المستخدَمة، وحتى في الأهداف المراد الوصول إليها.
تتراوح منطلقات هذه التيارات وأهدافها، بين الحدّ الأقصى الذي يؤيِّد تحرير فلسطين من النهر إلى البحر واستعادة كل الأراضي المحتلة منذ عام 1948 (وهي التيارات المنضوية في محور المقاومة)، وبين الحدّ الأقصى في الجهة المقابلة، والذي يكتفي بانتقاد السياسات الإسرائيلية ومطالبتها بـ"أخلاقيات أكثر" في التعامل مع الفلسطينيين. وما بين هذين الحدّين، هناك تيارات وناشطون وأفكار ورؤى، ويمكن اختصارها في ما يلي:
- تيار يعتبر "إسرائيل" كِياناً غير شرعي، يجب إزالته. وعلى مرّ السنين، ومع توقيع اتفاق أوسلو، وموجات التطبيع، وموجات "الربيع العربي"، تراجع حجم هذا التيار ليقتصر، بصورة أساسية، على قوى محور المقاومة وداعميها.
- تيارات حقوقية قانونية، تعترض على قيام "إسرائيل" بانتهاك القانون الدولي، من خلال الجرائم والفرز العنصري والاستيطان وغيرها. وهي تقوم بتقديم تقارير قانونية على نحو دائم يمكن للفلسطينيين البناء عليها وتسويقها.
- بعض تيارات اليسار القديم، والذي ما زال يؤمن بضرورة مواجهة الامبريالية. وهؤلاء يجدون في الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين، والدعم الأميركي لـ"إسرائيل"، امبرياليةً يجب محاربتها.
- تيارات السلام، وأصحابها يرفضون الحروب، ويدعون إلى السلام في العالم، وتجدهم في الخط الأمامي للتظاهرات المناوئة للحرب، بغض النظر عن البقعة الجغرافية.
- ناشطون يساندون القضية الفلسطينية، انطلاقاً من رفضهم الهيمنة والاحتلال والعنصرية، كافة، ويؤيدون حقّ الشعوب في تقرير مصيرها.
- ناشطون يتحرَّكون بدافع "كره الصهيونية" وأدواتها، لكنهم مع حق "إسرائيل" في الوجود وفي الأمن، ويدعون إلى حل سلمي شامل بين الطرفين.
- تيارات تؤيِّد حلّ الدولتين، لذا تدعم الشعب الفلسطيني، وتؤيد حقه في الحرية وفي إقامة دولة يعيش فيها بسلام جنباً الى جنب مع "دولة إسرائيل".
لقد أثبتت التجارب أن مجموع هذه الحركات يشكّل قيمة معنوية عالمية هائلة لا يستهان بها، وأن لها تاثيرات إيجابية - ولو محدودة - في الضغط على صنّاع القرار في الغرب. لكنها، بالرغم من ذلك، تبقى في إطار التأييد الإنساني الموسمي، والذي لا يلبث أن يخفت ويتلاشى، ولم يستطع أن يصل يوماً إلى مستويات مُرْضية، تعبّر عن تأييد دائم وفعّال ومستدام.
لقد علّمنا التاريخ، وخصوصاً تجارب شعوب العالم التحررية، بِأنّ ما اصطُلح على تسميته الرأيَ العام الدولي، لا يتحرك مؤازِراً ومسانداً إلاّ على وهج الانتصارات الميدانية التي تتحقَّق، أو على وقع فظائع ومجازر كبرى يندى لها جبين البشرية. وهذا يعني أن عدالة القضية وأحقيتها، تاريخياً وإنسانياً وقانونياً، ليستا، في حدّ ذاتيهما، محرِّكاً كافياً للارتقاء بوعي الرأي العام الدوليّ وتعاطفه، إلى الانخراط في التأييد المتنامي والمستدام.
لذلك، لا يمكن الاتِّكال على تحرك الرأي العام العالمي من تلقاء نفسه، ولا على إبقاء الحسّ التضامني قائماً ما لم يقم داعمو فلسطين بخطوات فعّالة للتواصل معه على نحو مستمر وفعّال ودائم، وقَبول التنوع الذي يحمله، وعدم التخلي عن أي جزء من أجزائه مهما اختلفت تعابيره ووسائله.
إن صياغة استراتيجيتين، إعلامية وسياسية، للبناء على ما تحقَّق، تبدو ضرورة ملحة، وخصوصاً إذا لاحظنا أن الإسرائيليين يخشون أن تتحوّل المقاومة من "استراتيجية تدمير إسرائيل" الى استراتيجية "انهيار إسرائيل من الداخل"، كما حدث مع الاتحاد السوفياتي ونظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، والتي تحتاج، على نحو أساسي، إلى تحويل "إسرائيل" إلى دولة منبوذة وفاقدة للشرعية، على الصعيد الدولي.
لا شكّ في أن نزع الشرعية عن الممارسات الإسرائيلية، يجب أن يكون جزءاً لا يتجزّأ من الجهد الذي يبذله الناشطون المؤيدون لفلسطين. ولعلّ أبسط تعبير عما يمكن أن تعيشه "إسرائيل" من خطر وجودي، في ظل تآكل شرعيتها الدولية، هو ما عبَّر عنه الصحافي الإسرائيلي آري شافيت يوماً، بقوله إن الخطر على "إسرائيل" هو أن تتحوّل من حركة قومية "تملك شرعية بدون كيان"، إلى "كيان بدون شرعية".