ماذا بعد "سيف القدس"؟
يمكن القول إنَّ فصائل المقاومة الفلسطينية بقيادة حركة "حماس"، بعد أن ألحقت الهزيمة بالعدو في هذه الجولة الأخيرة، باتت في مصاف اللاعبين الإقليميين.
"بأمرٍ من قائد هيئة الأركان أبو خالد محمد الضيف، رُفع حظر التجول عن تل أبيب ومحيطها لمدة ساعتين، من الساعة العاشرة وحتى الساعة الثانية عشرة ليلاً. وبعد ذلك، أمر بعودتهم إلى الوقوف على رجل واحدة". 15 أيار/مايو 2021.
يختزل هذا البيان الّذي أصدرته كتائب "القسام" المستوى الذي وصلت إليه المقاومة الفلسطينية في توازن الرعب مع العدو الصهيوني خلال معركة "سيف القدس"، لكن نتائج الجولة الأخيرة في الحقيقة تتجاوز بشكل كبير معادلات الردع المتبادل التي أفرزتها هذه المواجهة، لكون دوافعها ونتائجها، إضافة إلى استحقاقاتها، تتمايز عن المواجهات السابقة في عدة نواحٍ.
انطلقت معركة "سيف القدس" من أجل تحقيق هدفين؛ أولهما تأمين الدعم لانتفاضة القدس عبر رسم خطوطٍ حمر أمام قمع الاحتلال للمنتفضين. أما الهدف الآخر، فكان فرض قواعد اشتباك جديدة مع العدو، مقتضاها أنّ المسّ بالمقدَّسَات أو محاولات تهويد القدس، من خلال الاستيلاء على بيوت المقدسيين وتهجيرهم، سيستدعي رداً عسكرياً من قبل فصائل المقاومة المسلحة الفلسطينية، وعلى رأسها كتائب الشهيد عز الدين القسام.
إذاً، كانت معركة "سيف القدس" معركةً وطنيةً وعقديةً بامتياز، خلافاً لسابقاتها في 2008-2009 و2012 و2014، والتي يمكن إدراجها في سياق الصمود والحفاظ على إنجازات المقاومة.
يشكّل تحقيق المقاومة الفلسطينيّة أهدافها، وتثبيت قواعد الاشتباك الجديدة بعد 11 يوماً من النّزال، تحولاً جوهرياً بحد ذاته على طريق تحرير كامل التراب الفلسطيني، لكن التحوّل الآخر الذي لم يكن متوقعاً، والذي ربما يُعدّ أكثر عمقاً، تمثل في دخول كل الأرض الفلسطينية، من رأس الناقورة إلى أم الرشراش، على خط انتفاضة القدس وتوحُّد كل الشعب الفلسطيني في معركةٍ واحدةٍ، فلطالما سعى الكيان الصهيوني إلى تقسيم الأراضي الفلسطينية، وفك الترابط بينها، في محاولةٍ منه لخلق هوياتٍ فلسطينيةٍ فرعيةٍ، وزّعها بين "عرب 48" و"ضفّاويين" و"غزاويين".
إضافة إلى ما تَقدَّم، يمكن ملاحظة التبدُّل في الوعي الفلسطيني الذي واكب هذين التحوّلين، إذ سقطت فكرة حل الدولتين غير القابلة للحياة أصلاً، وعادت الفكرة الأُم والأكثر واقعيةٍ بتحرير فلسطين من النهر إلى البحر لتتصدر المشهد الفلسطيني، وحتى العربي، وسقطت كذلك أكذوبة إمكانية التعايش مع كيانٍ استيطانيٍّ إحلاليٍّ يقوم على أساس اقتلاع شعب وإحلال مجاميع سكانيةٍ غريبةٍ أخرى مكانه.
وعليه، يمكن أن نخلص إلى أنّ تحقيق المقاومة الفلسطينية الأهداف التي وضعتها لمعركة "سيف القدس"، وما صاحبها من تحولات في الشارع الفلسطيني، رفع إنجازات المعركة، لتصبح تحولاً استراتيجياً مكتمل الأركان، يُبشِّر بمرحلةٍ جديدةٍ مغايرةٍ.
من الناحية المادية، ما كان لهذا التحول الاستراتيجي أن يتحقق لولا القدرة التسليحية النوعية والتكتيكات العسكرية الإبداعية التي ظهرت لدى قوى المقاومة الفلسطينية بقيادة كتائب "القسام"، إضافةً إلى الدعم العسكري والاستراتيجي الذي تتلقاه المقاومة الفلسطينية من محور المقاومة، ناهيك بما كشفت عنه هذه الجولة من هشاشةٍ في معسكر العدوّ، سواء كان في الجبهة الداخلية أو في القدرات الاستخبارية أو في القدرة القتالية لـ"جيش" الكيان الذي لم يستطِع تقديم أيَّ إنجازٍ، ولو كان صورة نصرٍ وهميٍ لمستوطنيه.
بناءً على ذلك، يمكن القول إنَّ فصائل المقاومة الفلسطينية بقيادة حركة "حماس"، بعد أن ألحقت الهزيمة بالعدو في هذه الجولة الأخيرة، باتت في مصاف اللاعبين الإقليميين، وصارت القوة الحقيقية الفاعلة في المشهد الفلسطيني من دون منازعٍ، لكن ماذا عن معسكر الأعداء؟
لا بدَّ من أن المعسكر الصهيو-أميركي برمته في المنطقة يشعر اليوم بالهزيمة، كما الكيان الصهيوني. لذلك، على المقاومة الفلسطينية، ولا سيما حركة "حماس"، بصفتها الفصيل الرئيس بين فصائل المقاومة، أن تستعدّ للمزيد من الضغوط في المرحلة القادمة، ولكن لأن الميدان العسكري أفرز توازناً جديداً للردع بين المقاومة الفلسطينية والكيان الصهيوني، فعلى الأرجح أن يلجأ الخصوم إلى محاولة تفريغ النصر الأخير من مضمونه عبر الأدوات السياسية.
وقد تجلى ذلك في كلمة الرئيس جو بايدن التي عقَّب فيها على وقف إطلاق النار المتبادل، إذ برز فيها محوران؛ الأوّل ربط إعادة الإعمار والمساعدات المالية بسلطة الرئيس المنتهية ولايته محمود عباس، وهو الربط الذي يهدف إلى إعادة تعويم السلطة الفلسطينية، بعد أن فقدت كل تأييدٍ لدى غالبية الفلسطينيين، نتيجةً للفشل والعجز اللذين وصلت إليهما، ونتيجةً لنظرة الشّارع الفلسطيني إلى هذه السلطة بأنها باتت أداة في يد المحتلّ، بإصرارها على مواصلة التعاون الأمنيّ مع قوات الاحتلال من أجل حراسة أمن المستوطنات والمستوطنين في الضفة الغربية، ومنع أيّ شكلٍ ذي معنى في مقاومة الاحتلال، ولو كان سلمياً.
من ناحية ثانية، يهدف هذا الربط إلى محاولة تحصيل تنازلات سياسية من حركة "حماس"، مقابل تسهيل إعادة إعمار قطاع غزة، ناهيك بنقله المواجهة حول إعادة الإعمار إلى مواجهة بين السلطة و"حماس"، عوضاً من أن تكون بين فصائل المقاومة والصهيوني أو الأميركي.
أما المحور الآخر الذي يمكن استخلاصه من كلمة الرئيس جو بايدن، فكان التلميح إلى أن الولايات المتحدة الأميركية ستعود لتولّي الملف الفلسطيني بنفسها. يأتي هذا كنتيجةٍ لفشَل الصهيوني في فرض إرادته بالقوة على الفلسطينيين. وهنا يتجلّى خطر الفخاخ السياسية، فمِن الوارد أن تضغط الولايات المتحدة الأميركية على الكيان الصهيوني في هذه المرحلة لتقديم تنازلات ملموسة، لكن ليست ذات معنى حقيقي للجانب الفلسطيني، سعياً إلى إعادة عقارب الساعة إلى ما قَبْل معركة "سيف القدس"، عبر إحياء مسار ما يسمى "مفاوضات السلام" وحل الدولتين الذي بات مرفوضاً جملةً وتفصيلاً في الشارع الفلسطيني، ولا سيما بين أوساط فلسطينيي الأراضي المحتلة العام 48، وهو ما من شأنه، إذا ما تم، تقزيم الإنجاز الإستراتيجي الأخير وتحويله إلى مجرد نقلةٍ تكتيكيةٍ، وبذلك يفرغه من معناه الحقيقي.
ظهر هذا التوجّه في التصريحات الأميركية الأخيرة التي استعادت الخطاب الأميركي التقليدي الَّذي كان سائداً قبل فترة دونالد ترامب تجاه الاستيطان والقدس، وهو خطابٌ معسولٌ، لكننا خبرنا نتائجه الكارثية على القضية الفلسطينية على مدى العقود الثلاثة الماضية.
يُعزِّز هذا الاستنتاج حول نيَّة الولايات المتحدة الأميركية، ما قاله مؤخراً مفوض الأمن والسياسات الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، في بيانٍ نشره الاتحاد الأوروبي. وقد جاء فيه أنَّ الاتفاقيات التي توصَّلت إليها "إسرائيل" مع عدة دولٍ عربيةٍ في السنوات الأخيرة التي توسّطت فيها إدارة ترامب، ولّدت انطباعاً لدى البعض في "إسرائيل" بأن القضية الفلسطينية تمت تسويتها، وأن الوضع الراهن يمكن أن يستمر إلى أجلٍ غير مسمى.
وشدَّد بوريل على أنَّ مفاوضات "عملية السلام" لم تحلّ النزاع، ولم توقف توسيع المستوطنات التي تقوض من الناحية العملية الحل الذي يدعمه المجتمع الدولي، ونجد في هذا الكلام توبيخاً شبه صريحٍ للكيان الصهيوني، يدغدغ عواطف محمود عباس ورجالات التنسيق الأمني الذين ما زالوا يراهنون على المفاوضات العبثية خلافاً لكل منطقٍ، وهي مفاوضاتٌ تتنازل عن 78% من أرض فلسطين مقدماً. وكان بوريل أكثر وضوحاً عندما تابع قائلاً إنَّ الاتحاد الأوروبي لا يمكنه أن يستمرّ في تمويل إعادة إعمار غزة من دون وجود احتمال إطلاق مسارٍ سياسيٍ بين "إسرائيل" والفلسطينيين.
إذاً، المقاومة الفلسطينية مقبلةٌ على مرحلة فخاخٍ سياسية على شكل مغرياتٍ فارغة المضمون وضغوطٍ صريحةٍ، لانتزاع تنازلات من الفلسطينيين تعيدهم إلى حالة المراوحة التي كانت سائدة خلال العقود الثلاثة الماضية، لكن ما دامت موازين القوى في غير مصلحة الاحتلال، كما أظهرت المواجهة الأخيرة، وما دامت الانتفاضة مستمرة في الضفة والقدس، وما دام ظهْر المنتفضين محمياً بصواريخ كتائب "القسام" مع باقي الفصائل، كما تعهدت المقاومة على لسان أبو عُبَيْدة، فمن الممكن انتزاع المزيد من الحقوق العربية والإسلامية في فلسطين من دون قيدٍ أو شرطٍ، ومن دون تقديم جوائز ترضيةٍ للاحتلال، على طريق تحرير كامل التراب الفلسطيني واقتلاع هذا الكيان الصهيوني المصطنع. ولذلك، باتت القدس اليوم حقاً أقرب.