حين يتحوّل التطبيع إلى عقدة خليجيّة!

ثمة إرباك في المشهد الخليجي وارتباك في الموقف في ظلّ التعاطف الشعبي الكبير الذي اجتاح العالم العربي.

  • تمَّ بناء الموقف الإماراتي تدريجياً على اعتبار أن الصراع القائم هو عنف بين طرفين.
    تمَّ بناء الموقف الإماراتي تدريجياً على اعتبار أن الصراع القائم هو عنف بين طرفين.

تأتي أحداث الشيخ جرّاح في فلسطين والحرب على غزة لتخلط الأوراق في الخليج، وخصوصاً في الدول التي وقعت اتفاقيات التطبيع. كان الصمت سيّد المشهد في الأيام الأولى، ومن ثَمَّ تحوّلت الدبلوماسية الخليجية نحو تسجيل المواقف المتضامنة مع فلسطين والمطالبة بوقف الانتهاكات الإسرائيلية. على الرغم من ذلك، وجدت هذه الدبلوماسية نفسها بين طرفي كماشة؛ بين وحشية الاحتلال وانتفاضة غير مسبوقة في فلسطين.

ثمة إرباك في المشهد وارتباك في الموقف، في ظلّ التعاطف الشعبي الكبير الذي اجتاح العالم العربي، والعالم ككلّ، إزاء ما يحدث في فلسطين. أيّ انحياز إلى "إسرائيل" كان يعني حتماً السقوط الحر لشعبية هذه الدول على مستوى الوطن العربي، ما انعكس صمتاً على الأصوات المؤيدة للتطبيع.

ولكنَّ اللافت أنَّ هذه الأصوات بدأت بالخروج عن صمتها تدريجياً لتحدّد مساراتها، فقد قال رئيس لجنة الدفاع والداخلية والعلاقات الخارجية في المجلس الاتحادي في الإمارات، علي النعيمي، لصحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية، إن شنّ "إسرائيل" أي حرب على قطاع غزة لن يؤثر في اتفاقية التطبيع معها، مؤكداً أن "السلام الدافئ سيصمد أمام الأزمات"، على حد تعبيره. وفي السياق ذاته، ألقت أصوات أخرى اللوم على "حماس في جرّ الساحة الفلسطينية إلى الحرب، والتسبّب بقتل المدنيين الفلسطينيين عبر مهاجمة إسرائيل".

وفي ظلّ الصراع الإقليمي الَّذي تخوضه الإمارات ضد جماعة الإخوان المسلمين في المنطقة، يمكن فهم السّياق الذي تجنح إليه أبو ظبي في هذه المرحلة الحساسة، وهو سياق قوامه أنّ "حماس، بإيديولوجيّتها الإخوانية، تشكل امتداداً للإرهاب في المنطقة، ولا يمكن الوقوف إلى جانبها، ومن حق إسرائيل الدفاع عن نفسها في مواجهة هذا الإرهاب".

من جانب آخر، تمَّ بناء الموقف الإماراتي تدريجياً، على اعتبار أن الصراع القائم هو عنف بين طرفين، ولا بد من أن يتوقف من قبل الطرفين لتجنيب المدنيين تبعات هذا العنف، لا على اعتبار أنه صراع بين أصحاب الأرض في مواجهة المحتل! هذا ما تتبناه الدبلوماسية الغربية في معالجة القضية الفلسطينية، غير أن المسألة تبدو صعبة خليجياً، لما تمثله فلسطين من عمق جغرافي عربي لا يمكن تجاوزه، ولا يمكن في أي حال من الأحوال اتخاذ موقف الحياد في الصراع القائم، لأنه سيصطدم دائماً بهذا العمق العربي، وبالوجدان العربي المتعاطف مع فلسطين.

عملياً، هو مسار يصعب السير فيه من دون عقبات، وخصوصاً أنَّ بعض الدول الخليجية لا ترمي إلى علاقات تطبيع حذرة فحسب، على غرار مصر والأردن، إنما إلى بناء علاقات استراتيجية عميقة من الناحية السياسية والاقتصادية، وربط مصالحها بمصالح "إسرائيل" للعبور نحو العالم، ما سيجعلها في دائرة الضوء كلَّما طرأ متغير على القضية الفلسطينية.

هذا ما جرى فعلاً مع انفجار الانتفاضة، إذ يبدو واضحاً استياء أبو ظبي من تتبّع مواقفها؛ فبينما كتب الأكاديمي الإماراتي الدكتور عبد الخالق عبد الله في "تويتر": "6 دول عربية تطبّع مع إسرائيل، وليس الإمارات فقط. 6 دول عربية أخرى تقيم علاقات معها بشكل غير رسمي. تركيا تقيم علاقات استراتيجية استخباراتية عميقة معها منذ العام 1947، ولكنّ التركيز على الإمارات بشكل مرضيّ، هذه هي الخسّة بعينها"، كتب الدكتور أنور قرقاش: "التعاطف والتآزر مع القضية الفلسطينية العادلة متأصّل لدى قيادة وشعب الإمارات، ولا نحتاج من يزايد عليه. أولويتنا وحدة الصف العربي، ووقف العنف ضد المدنيين، والعمل السياسي للإنهاء الاحتلال. نعلم علم اليقين أنَّ المعاناة الفلسطينية، وعبر سنوات، تم استغلالها على حساب هذا الشعب المناضل".

بالنّسبة إلى المملكة العربية السعودية، يبدو أن ما حصل في فلسطين كبح أيّ إمكانية للتطبيع مع "إسرائيل" في هذه المرحلة أو في المدى المنظور، على اعتبار أن السعودية تمثل الثقل والعمق الإسلاميين في المنطقة. انعكس ذلك على تغريدات السعوديين في "تويتر"، والتي حملت وسم "القضية الفلسطينية هي قضيتنا الأولى". كما عقدت منظّمة التعاون الإسلامي اجتماعاً طارئ بطلب من الرياض لمناقشة آخر التطوّرات في فلسطين.

ودان وزير الخارجية السعودي، الأمير فيصل بن فرحان آل سعود، الانتهاكات الإسرائيلية الصّارخة بحقّ الفلسطينيين واستيلاء "إسرائيل" على منازلهم في القدس، ودعا المجتمع الدولي إلى التحرك العاجل لوقف العمليات العسكرية في غزة فوراً، مشدداً على أنَّ المملكة ترفض الإجراءات الإسرائيلية الاستفزازيّة في القدس الشرقيّة. 

في المحصّلة، يبدو أنّ المتغيرات في المنطقة تفرض نفسها على جميع الدول، بما فيها الخليج، وهي منطقة يشبه السير فيها السير في حقل ألغام. كلّما اعتقد البعض أنَّ الأمور بدأت تأخذ مسارها نحو التهدئة، والتوازنات بدأت تتجه نحو الاستقرار، انفجرت المنطقة أكثر. ولا يبدو حتى الآن أنّ التطبيع قد يأتي بالاستقرار إلى المنطقة.

اعتداءات إسرائيلية متكررة على الفلسطينيين في القدس المحتلة ومحاولة تهجيرهم من منازلهم، استدعت انتفاضة فلسطينية عمت الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتبعها عدوان إسرائيلي على غزة تجابهه المقاومة بالصواريخ التي تشل كيان الاحتلال.