بعد "سيف القدس" نغزوهم ولا يغزوننا
هي الحرب الثانية عربياً، بعد حرب أكتوبر 1973، التي يبدأ بها العرب، وجميع الحروب الأخرى كانت بمبادرة الكيان الصهيوني.
حتى كتابة هذه السطور، ما زالت الحرب تحمل أوزارها وتُلقي بحممها، فالعدو المجرم يواصل صبّ حمم قذائفه المُدمِّرة، من الجو والبر والبحر، على قطاع غزة، فيقتل البشر، ويُحرق الشجر، ويدمّر الحجر، والمقاومة الباسلة تدكّ مدن المستوطنة الصهيونية من شمالي فلسطين إلى جنوبيها، لترسم خريطة فلسطين بالنار، وتضع على رؤوس قادة العدو إكليل العار. وقبل أن تضع الحرب أوزارها وتُفرغ حممها، وتنتهي هذه الجولة من الحرب، فيتوقّف العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، ويعود "سيف القدس" إلى جرابه، لاحت من بين دخان الحرب السوداء خيوطُ الضوء البيضاء. ويُمكن التقاط بعضها، في محاولة لفك شيفرتها، ومنها:
أولا: معركة "سيف القدس"، هي الحرب الأولى فلسطينياً، التي تُقرِّر المقاومة الفلسطينية فيها المبادرة إلى الحرب، وتحدِّد ساعة الصفر لانطلاقها. وهي الحرب الثانية عربياً، بعد حرب أكتوبر 1973، التي يبدأ بها العرب. وجميع الحروب الأخرى كانت بمبادرة الكيان الصهيوني، ابتداء من حرب النكبة والعدوان الثلاثي والنكسة، وانتهاءً بحروب غزة الثلاث، وآخرها حرب عام 2014، مروراً بحرب لبنان الأولى عام 1982، وحرب لبنان الثانية عام 2006، بالإضافة إلى عشرات المعارك والعمليات العسكرية الأُخرى. وهذه المبادرة إلى الحرب، والتي قامت بها المقاومة الفلسطينية بجناحيها الأساسيين: "حماس" و"الجهاد"، تعني تراجع الردع الإسرائيلي، وزيادة الثقة بالنفس لدى الجانب الفلسطيني، وشجاعة أخذه قرار الحرب.
ثانيا: معركة "سيف القدس"، هي الحرب الأولى التي تخوض فيها المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة الحرب، نتيجة أسباب غير متعلّقة بالوضع الميداني الغزاوي، كالعدوان العسكري والحصار الاقتصادي، وغير ناتجة من تدحرج الأحداث المتبادلة بين المقاومة والاحتلال، بل اندلعت بسبب أهم مفردات القضية الفلسطينية، أي القدس والمسجد الأقصى، باعتبارهما قضية إجماع وطني فلسطيني، بعد تواصل انتهاكات المستوطنين لحُرمة المسجد الأقصى وتخطيطهم لاقتحامه، وتواصُل بطش جيش الاحتلال واستباحة الدم الفلسطيني في باحاته وعند أبوابه، طوال شهر رمضان المبارك. وهذا يدل على أنَ المقاومة الفلسطينية، على الرَّغم من اهتمامها بتوفير الحياة الكريمة لشعبها وحاضنتها لدعم صمودهما، فإنها تضع في أولوياتها القضية الوطنية بكل مفرداتها : القدس والتحرير والعودة وغيرها.
ثالثاً: معركة "سيف القدس"، باسمها وأسبابها وهدفها، تدلّ على أنَ القدس هي مركز الصراع بين الكيان الصهيوني من جهة، والشعب الفلسطيني والأمتين العربية والإسلامية من جهة أخرى، وتُلخِّص طبيعة الصراع الإحلالي الاستيطاني من خلال ما يحدث في حي الشيخ جراح من محاولات تفريغه من سكانه الفلسطينيين وطردهم لإحلال مستوطنين يهود وتوطينهم مكانهم. وهي تُلخّص طبيعة الصراع دينياً وحضارياً، من خلال ما يحدث في المسجد الأقصى وبيت المقدس وأكنافهما، عبر محاولات السيطرة الجغرافية مادياً وفعلياً، ومحاولات السيطرة التاريخية معنوياً ورمزياً، لتكون الروايتان الجغرافية والتاريخية روايةً يهودية صهيونية... والتسمية هذه ("سيف القدس") وأسباب المعركة وأهدافها تدل على محورية الصراع في القدس وأكنافها بين الحق والباطل.
رابعاً: معركة "سيف القدس"، في عنوانها ومضمونها، المتمحورين حول القدس، هي عنوان وحدة فلسطين، ومضمون هذه الوحدة يتجسّد في وحدة الشعب والأرض والقضية. فالشعب توحَّد خلف القدس وسيفها في كل أماكن وجوده، ولاسيما في فلسطين المُحتلة، لا فرق بين سكان قطاع غزة، على الرغم من معاناة الحصار وآلام العقوبات، وبين سكان الضفة، على الرغم من معاناة الاحتلال والاستيطان وبطش أجهزة التنسيق الأمني، وبين مواطني الأرض المحتلة عام النكبة، على الرغم من معاناة التمييز العنصري ومحاولات الأسرلة، ووهم المواطنة، وأكذوبة التعايش في "مجتمع إسرائيلي" واحد! ووحدة الأرض الفلسطينية، التي رسمت معالمها صواريخ المقاومة من شمالي فلسطين إلى جنوبيها، ووحدة القضية الفلسطينية كقضية تحرير وعودة واستقلال محورها القدس.
خامساً: معركة "سيف القدس"، أنهت الجدل العقيم بشأن مهزلة الانتخابات، من جانبين:
أولهما وَهْم السيادة على القدس، والذي من أجله أُلغيت الانتخابات بعد رفض الاحتلال إجراءها في القدس، فجاءت المقاومة الشعبية من أهل القدس وفلسطين المحتلة عام النكبة، لتقول إنَ السيادة على القدس تفرضها المقاومة وليس الانتخابات، فتُعدّل خط سير "مسيرة الأعلام" للمستوطنين، ثم لتأتي صواريخ المقاومة من غزة فوق رؤوس المستوطنين، لتفرض على الاحتلال والمستوطنين إلغاء المسيرة فوراً، والهروب بطريقة مُذّلة.
وثانيهما وَهْمُ الشرعية عبر الانتخابات تحت الاحتلال، لتعيد معركة "سيف القدس" الشرعيةَ إلى أصلها المنتزَع بالمقاومة والدم والعرق، فالشعب يُعطي الشرعية للمقاومة في مرحلة التحرير الوطني.
سادساً: معركة "سيف القدس"، حتى الآن بما تبيَّن من القدرة على اتخاذ قرار الحرب، وإدارتها بتنظيم وانضباط وهدوء، وتطوُّر قدراتها الصاروخية، كمّاً ونوعاً ومسافةً واستمراريةً، تُعتبر محطة تحوُّل كبرى مفصلية في تاريخ الصراع بين الكيان والأمة بصورة عامة، وبين الكيان والمقاومة بصورة خاصة، فلقد تجاوزنا مرحلة الانتصارات الإسرائيلية في الحروب الثلاث الأولى: النكبة والعدوان الثلاثي والنكسة، وتجاوزنا مرحلة اختلاط النصر بالتعادل والهزيمة للكيان في حربي أكتوبر ولبنان الأولى، وتجاوزنا المرحلة الثالثة التي حققت فيها المقاومة الإنجازات من خلال الدفاع، فأخرجت جيش الاحتلال والمستوطنين من غزة عام 2005، وأخرجت جيش الاحتلال من لبنان مدحوراً مذعوراً عام 2000، ومنعت الكيان الصهيوني من تحقيق النصر في حروب غزة الثلاث، إيذاناً ببدء المرحلة الرابعة بانطلاق الصلية الأولى من صواريخ المقاومة من غزة فوق رؤوس المستوطنين المستعدين لاقتحام المسجد الأقصى في القدس. وهي مرحلة المبادرة إلى الهجوم، أو: الآن نغزوهم ولا يغزوننا.
خُلاصة الأمر أنَ معركة "سيف القدس" تشكل محطة تحوّل كبرى مفصلية في تاريخ الثورة الفلسطينية في صراعها مع مُحتل أرضها ومُهجّر شعبها وقاتل أهلها، وفي تاريخ الصراع بين الأمة الإسلامية والكيان الصهيوني. وهي مرحلة" نغزوهم ولا يغزوننا، بمعنى المبادرة إلى اتخاذ قرار الحرب التحريرية الشاملة وتنفيذه في محطة إساءة وجوه بني إسرائيل في حروب المقاومة، وهو الممرّ الإجباري والتمهيدي لمحطة دخول المسجد الأقصى، وتَتْبير علوّ دولة الإرهاب والإفساد، وتحرير فلسطين.
ما بين المحطتين كثيرٌ من إنجازات النصر، وآلام المعاناة، حتى يأذن الله تعالى بالنصر المبين، وحينئذ يفرح المؤمنون بنصر الله.