الحلفاء الأعداء: السعودية تطلب التهدئة من الإمارات

تدرك الإمارات الوضع الحرج الذي تعيشه السعودية المحاصرة بعدد من الأزمات، والمطوقة بكثير من الملفات داخلياً وخارجياً، ما دفعها إلى الإيعاز إلى رجلها الأول في الجنوب لإعلان الخطة الجديدة، والتلويح بورقة "الانفصال"، والمضي في بناء "دولة فيدرالية".

  • الحلفاء الأعداء: السعودية تطلب التهدئة من الإمارات
    الحلفاء الأعداء: السعودية تطلب التهدئة من الإمارات

من الصّعب فصل ما يدور في المحافظات اليمنية الجنوبية والشرقية على حد سواء عن صراع دول النفوذ، بما فيها الدول المنضوية تحت سقف التحالف العسكري، وتحديداً السعودية والإمارات، إذ إنَّ لكل دولة حساباتها ومطامعها، بحكم الجيوبوليتيك التي تتمتّع به تلك المحافظات، أولاً من ناحية موقعها الاستراتيجي البالغ الأهمية وموانئها وشواطئها المطلة على 3 واجهات بحرية ممتدة من خليج عدن وبحر العرب، وصولاً إلى المحيط الهندي، إضافةً إلى ما تكتنزه تلك المحافظات من ثروات نفطية وغازية، مع إدراك الدول المتنافسة أنَّ من يُحكم قبضته عليها، ستكون له كلمته وحضوره الإقليمي، وهو ما يفسر مسارعة الكثير من الدول وتزاحمها ومنافستها، إما بشكل مباشر وإما عبر الوكلاء، في هذه الرقعة الجغرافية المهمّة من اليمن.

وانطلاقاً من نظرية الدور في العلاقات الدولية، يمكننا بداية تحديد أبرز الدول التي تؤدّي أدواراً في جنوب اليمن وشرقه، وإن كانت متفاوتة، بعضها معلن وظاهر، مثل أميركا وبريطانيا والسعودية والإمارات، وبعضها مستتر خلف منظمات إنسانية، مثل تركيا التي دخلت مؤخراً من البوابة الإنسانية، "حزب الإصلاح"، المنضوي تحت مظلة تنظيم الإخوان المسلمين.

من المعلوم أنَّ للإمارات الدور الأبرز في معادلة صراع النفوذ، من خلال تجنيدها الآلاف من أبناء المحافظات الجنوبية وتسليحهم وتدريبهم وتشكيلهم ضمن "أحزمة أمنية" تنتشر في عدن وأبين ولحج والضالع وسقطرى وجزء كبير من شبوة وحضرموت، وتنفّذ بالوكالة ما تطلبه منها أبو ظبي، بالتنسيق مع الأميركي والبريطاني، اللذين بات لهما أيضاً حضور فعلي وقواعد عسكرية في حضرموت والمهرة وسقطرى (لأهداف استراتيجية تصبّ في خدمة مصالحهما، وأخرى تكتيكية مرتبطة بالعمل العسكري والاستخباراتي في المحافظات الجنوبية والشرقية، وامتداداً إلى مأرب وصنعاء، كما كشفت معلومات استخباراتية من صنعاء)، ومن ثم تأتي السعودية التي بنت قواعد عسكرية في محافظات بعيدة أصلاً من مجريات الحرب والصراع، وبعيدة من العناوين التي رفعتها مع انطلاق الحملة العسكرية "عاصفة الحزم"، وذلك في سبيل تحقيق مطامعها التاريخية في إيجاد حضور على بحر العرب، ومد أنبوب نفطي من السعودية إلى بحر العرب يغنيها عن مضيق هرمز. وقد كانت تسعى لتنفيذ المشروع منذ ثمانينيات القرن الماضي، كما كشف الرئيس الجنوبي الأسبق علي ناصر محمد.

أما الدّول التي تمارس دوراً مستتراً خلف سواتر إنسانية، فأبرزها تركيا، المتحالفة مع حزب "الإصلاح" المنضوي تحت لواء تنظيم الإخوان المسلمين. وبحكم العلاقة التاريخية بين الاتحاد السوفياتي سابقاً وجمهورية اليمن الديمقراطية، تسعى موسكو إلى أن تستعيد دورها، بل تحلم بذلك أيضاً، باعتبارها الوريث التاريخي للاتحاد السوفياتي، لكنَّها تصطدم بالنفوذ الأميركي، فالجنوب أصبح في الملعب الأميركي بعد حرب صيف العام 1984، بدعم واشنطن للرئيس علي عبد الله صالح وجماعة الإخوان المسلمين، وبهدف إسقاط آخر معاقل الاتحاد السوفياتي، تماماً كما فعلت في أفغانستان ضد الاتحاد السوفياتي، باستخدام ورقة الأفغان العرب. وكان للسعودية دور لم يعد خافياً عن أحد في التجييش والدعم. 

بهذه الخلفيَّة، وبحكم هذا الصراع المحتدم ماضياً وحاضراً، لا يمكن أن تشهد المحافظات الجنوبية استقراراً مستداماً وقابلاً للحياة، في ظلّ الهوة الكبيرة بين أطراف الأزمة، ولا يمكن أن تنجح الرياض في احتواء الوكلاء المتصارعين، بسبب الخلاف التاريخي والارتباط بعدد من الأطراف الإقليمية والدولية. 

ويبدو أنَّ التوتر سيعود حتماً بين 3 قوى محلية، يمثلها الانتقالي وجماعة هادي الإصلاح والقوى الرافضة لمشروع الاحتلال في حضرموت والمهرة وغيرها. على المستوى الشعبي، لم يعد الشارع الجنوبي يعوّل على القوتين السابقتين، بعد أن أثبتتا فشلهما في تحقيق مطالبه وطموحه، على الأقل في تحقيق العيش الكريم، ما يتيح الفرصة أمام القوى البديلة، وإن كانت في طور التشكّل، ولم يكن لها حضور أمني وعسكري بشكل ملموس على الأرض.

يبدو أنَّ صانع القرار الإماراتي، فضلاً عن الأميركي والإسرائيلي، يدركون هذه المتغيرات، وبالتالي يريدون تكريس هيمنتهم على المشهد أكثر، ولو نسفوا اتفاق الرياض الذي رعته السعودية. ما يفسر ذلك أنَّ رئيس المجلس الانتقالي الموالي للإمارات أعلن فور وصوله من أبو ظبي، وعقب غياب دام عاماً، نيّة فصيله إعلان الانفصال، وكأنّه كان يحمل خطّة جاهزة في حقيبة السفر التي عاد بها من الإمارات، وهي جاهزة للتنفيذ على وجه السرعة، مستغلاً تعثر الشق العسكري من اتفاق الرياض، ورفض جماعة هادي و"الإصلاح" دمج أعضائه ضمن فريق المفاوضات، وضمن وزارتي الداخلية والدفاع التابعتين لـ"حكومة" المناصفة التي تمخضت عن الاتفاق، رغم أن الانتقالي هو المسيطر أمنياً وعسكرياً على عدن وكثير من المناطق الجنوبية.

في التوقيت السياسي، تدرك الإمارات الوضع الحرج الذي تعيشه السعودية المحاصرة بعدد من الأزمات، والمطوقة بكثير من الملفات داخلياً وخارجياً، ما دفعها إلى الإيعاز إلى رجلها الأول في الجنوب لإعلان الخطة الجديدة، والتلويح بورقة "الانفصال"، والمضي في بناء "دولة فيدرالية". وبعد عام ونصف العام، تم توقيع اتفاق الرياض، وفشل النظام السعودي في احتواء الأزمة.

وهنا، نتساءل عن العوامل التي شجَّعت الانتقالي على هذه الخطوة التصعيدية، وتأثيرها في مصير اتفاق هشّ رُكب على عجل خدمةً لأجندة الرياض أولاً، وأُجبر طرفاه على التوقيع عليه في مطلع تشرين الثاني/نوفمبر 2019، ليكتشف الانتقالي بعد هذه المدة أنه "أكل الطعم"، كما صرح القيادي فيه اللواء أحمد بن بريك، وبالتالي ما هي التداعيات السياسية والميدانية في مرحلة حرجة بالنسبة إلى "الإصلاح" الغارق في مأرب، والسعودية المطوقة بأزماتها داخلياً وخارجياً، وعلى كل الصعد؟ 

يبدو أنَّ الزبيدي أخذ الضوء الأخضر قبيل عودته من الإمارات إلى عدن بتنفيذ خطة التصعيد فور وصوله، وبشكل مستعجل. ذلك ما يوحي به التلويح بالانفصال، ورفع علم الانفصال على قصر المعاشيق بعد 4 أيام فقط من عودته من الإمارات وزيارته موسكو، التي أعلن خلالها استعداده الكامل للتطبيع علناً مع "إسرائيل"، ظناً منه أن مثل هذا الإعلان سيحشد مواقف دولية لتأييد مشروع الانفصال، لكن "إسرائيل" لم تلقِ بالاً لذلك، رغم أن الإعلان جاء بعد الاتفاق العلني الإماراتي الإسرائيلي، وبتعليمات من محمد بن زايد وزبانيته المقربين، وتحديداً مستشار الأمن الوطني الإماراتي طحنون بن زايد. وفي الوقت ذاته، يزعم الزبيدي في خطابه الأخير أنه يمتلك "حضوراً فاعلاً في عدد من الدول المؤثرة في صناعة القرار الإقليمي والدولي".

تحاول الرياض التهدئة واحتواء التصعيد. يبدو ذلك جلياً من خلال ترتيبها لقاء جدة في 5 أيار/مايو 2021م، وهو لقاء يجمع محمداً بن سلمان بمحمد بن زايد، وليس بعيداً من هذا السياق، وإن جاء تحت عنوان "بحث التعاون الاستراتيجي الشامل والتنسيق المشترك بين البلدين"، إلا أنه لن يُغفل الملف اليمني، بكل تأكيد، بتعقيداته وما يعانيه الطرفان من أزمات صعبة، بما فيها المستجد الأخير في المحافظات الجنوبية، ونحن نفترض أن السعودي طلب من الإماراتي التهدئة وضبط إيقاع الانتقالي، ونستوحي ذلك من توقيت لقاء جدة الذي جاء بعد يومين من تلميح الانتقالي بـ"اقتراب استعادة دولة الجنوب".

نقطة ضعف الحلفاء الأعداء، ونقصد السعودية والإمارات، وجماعة هادي و"الإصلاح" والانتقالي، أنهم فشلوا مجتمعين ومتفرقين خلال السنوات الماضية في معالجة الأزمات المستفحلة في المحافظات الجنوبية. ورغم اندماج حلفاء الرياض وأبو ظبي ضمن حكومة شكلية بموجب اتفاق الرياض، فإن المحافظات الجنوبية تعيش مرحلة أسوأ بكثير مما كانت عليه قبل انطلاق "عاصفة الحزم"، مما يتمثل في انفلات الأمن، وغياب التنمية والخدمات (الصحة، الماء، والكهرباء)، وتوقف دفع المرتبات، وتردي الأوضاع المعيشية، وتفشي الأمراض والأوبئة، في ظل انشغال تلك القوى، الإقليمية منها والمحلية، بالتمدد والتموضع، ونهب الثروة، وإحكام قبضتها على ما نسبته 80% من موارد البلد من النفط والغاز والضرائب والجمارك والثروة السمكية، بحسب معلومات رسمية.

لم تأتِ السّعودية والإمارات منذ البداية من أجل مصلحة الوطن والمواطن، بقدر انشغالهما بتحقيق أطماعهما الجيوسياسية، من احتلال جزيرة سقطرى ومحافظة المهرة، والهيمنة على المطارات والموانئ الاستراتيجية المطلة على بحر العرب وخليج عدن، فضلاً عن حقول النفط والغاز في المحافظات الشرقيَّة، وتحديداً حضرموت وشبوة.

في ظلّ هذا الواقع المتأزم، يتفاقم الغضب الشعبي، وتتقاذف أطراف الأزمة الاتهامات، ويحمّل كل منهما الآخر مسؤولية الفشل والفساد. وأمام ذلك، يخشى الانتقالي انقسام المكونات الجنوبية الرافضة لمشروعه الانفصالي وارتفاع حظوظهم على حسابه. ذلك ما يكشفه قوله إنَّ يده "ستظل ممدودة للحوار مع الجنوبيين كافة"، ودعوته تلك المكونات إلى توحيد الصف. من جهة أخرى، يحاول الانتقالي استثمار هذه الحالة الشعبية الغاضبة لتقوية موقفه السياسي ومحاصرة جماعة هادي و"الإصلاح" بالغضب الشعبي، وهما محاصران فعلاً داخل قصر معاشيق وفنادق الرياض. 

ما يجري لا يأتي أيضاً بمعزل عن التحولات الإقليمية والدولية، في ظلّ تراجع مكانة السعودية وفشلها في مختلف الملفات الإقليمية، من اليمن إلى سوريا والعراق وليبيا، وسقوط رهاناتها في إفشال الاتفاق النووي، وفتور علاقاتها مع البيت الأبيض عما كانت عليه إبان فترة ترامب، على عكس الإمارات التي تدرس حالة السعودية جيداً، والتي نفَّذت خطوتها عبر وكلائها في ظل مرحلة حرجة جداً، وفي خضمّ مأزق تاريخي غير مسبوق للرياض وأدواتها على حد سواء. كلّ هذه المتغيّرات ستقيّد الخيارات السعودية في احتواء هذه الخطوة أو الإقدام على خطوة تصعيدية مقابلة، وستضع اتفاق الرياض على شفير الهاوية.

ورغم أنَّ البعض يعتقد أنَّ الأمور ترجّح كفة الانتقالي، صاحب الحضور العسكري والأمني الأقوى ميدانياً، على حساب جماعة هادي و"الإصلاح" المنبوذين شمالاً وجنوباً، مستغلاً تآكل حظوظ الأخير ميدانياً وسياسياً في الجنوب، وكذلك في مأرب؛ آخر معاقلهم في المحافظات الشمالية اليمنية، فإننا نرى أن حظوظ الطرفين معاً تتآكل، ومستقبلهما في مهب الرياح، لأنهما مرتهنان للخارج، ولا يملكان قرارهما، ما يفتح الأبواب لقوى وطنية صاعدة تنتشل المحافظات الجنوبية من واقعها المرتهن والمتأزم.