فشل ابن سلمان الذريع في لبنان

الدول لا تؤمن بفعل الخير محبّة بالخير، للدول أهداف سياسية، والأهداف السعودية في لبنان كانت ثلاثة.

  • بعد العام 2005، لم يعد بوسع السعودية الحفاظ على الاستراتيجية نفسها.
    بعد العام 2005، لم يعد بوسع السعودية الحفاظ على الاستراتيجية نفسها.

تقع مدينة الطائف، حيث وقّع النواب اللبنانيون في العام 1990 على الاتفاقية الدستورية الجديدة الخاصَّة بنقل الصلاحيات الدستورية، لتكريس توازنات سياسية - طائفية - إدارية جديدة، في السّعودية، لا في سوريا. وقد دفع السعوديون - لا السوريون - ثمن تواقيع النواب اللبنانيين. 

رغم ذلك، حملت سوريا في الوجدان المسيحي اللبناني مسؤولية انتزاع الصلاحيات والنفوذ، فيما حافظت السعودية على الظهور بمظهر الدولة الصديقة لجميع اللبنانيين، والتي لا تتدخّل في شؤونهم الداخلية. بقي الأمر كذلك طوال الحقبة الحريرية الطويلة، رغم أنَّ الرجل الأقوى سياسياً وطائفياً وإدارياً في تلك المرحلة كان الرئيس رفيق الحريري السعوديّ - الفرنسيّ - الأميركي، لا السوريّ.

وقد نجحت الماكينة السعودية في أن تؤدي في لبنان أكبر دور سياسيّ يمكن لدولة إقليمية أن تؤديه، من دون ضباط ومفارز أمنية وكل وسائل الترهيب والترغيب التقليدية، وحلّت حقائب المال وساعات الذهب محلّ كل الأدوات التقليدية، بحيث اصطف المداحون لشكرها على تدخّلها في الشأن اللبناني بوصفه فعل خير و... مكرمة. 

وقد حصنت السعودية هذا النفوذ الإقليميّ بجدار أول من السياسيين المنتفعين، وجدار ثانٍ من رجال الأعمال والمتعهدين والمقاولين الذين فازوا لعقودٍ بعقود التعهدات والبنية التحتية والطباعة والعلاقات العامة في وزارات المملكة، وجدار ثالث من رجال الدين المسيحيين بشكل رئيسي، الذين أسرت المملكة قلوبهم، بحكم احترامها، ربما، حرية المعتقد وحقوق الإنسان، وجدار رابع من جيش كبير جداً من الإعلاميين والفنانين و"الفاشينيستا" والمدونين الذين أنشأت لهم كل ما يحتاجونه من شركات إنتاج وتسويق وأعراس. 

أما بعد العام 2005، فلم يعد بوسع السعودية الحفاظ على الاستراتيجية نفسها، نتيجة الانقسام الكبير بين محورين إقليميين. رغم ذلك، كانت تدعم فريقاً، وبدأت علانية تعطي مدير استخباراتها دوراً علنياً في استقبال الضيوف اللبنانيين، وصار سفراؤها ينشطون في لبنان علانية مع فريق ضد آخر، لكنها بقيت قادرة على التواصل وأكثر مع غالبية عناصر الفريق الآخر؛ تواصل كان من شأنه تحييد السعودية أو تجاهلها بالكامل في أدبيات هؤلاء، رغم أنها الممول الأول لخصومهم المفترضين. 

لاحقاً، بدأت جحافل التكفيريين المدعومين سعودياً بغزو سوريا، مع فشل تكتيكيّ في اختراق أمن الضاحية لهزّ الاستقرار اللبناني الأمني الصامد، رغم الزلازل الأمنية العاصفة بالمنطقة، وانتقل الفريق السياسي المدعوم سعودياً من مرحلة شعارها حب الحياة إلى مرحلة المناصرة الكاملة للتكفيريين المدعومين سعودياً. رغم ذلك، آثرت أكثرية اللبنانيين تجاهل الدور الخليجي المفضوح في استحداث عشرات المدارس والمجموعات التكفيرية وتمويلها. 

تواصل تحييد السعودية، إلا أنَّ استراتيجية عمل 2005 - 2012 لم تحقق الغاية السعودية، وكذلك استراتيجية عمل 2012 - 2016. لم تشهد معاداة لبنانية، لكنها عجزت في المقابل عن تحقيق أهدافها من هذا الاستثمار المالي الكبير. الدول لا تؤمن بفعل الخير محبّة بالخير. للدول أهداف سياسية، والأهداف السعودية في لبنان كانت ثلاثة:

أولاً، محاصرة "حزب الله" وإلهاؤه بمشاكل الداخل عن عدويه الخارجيين: "إسرائيل" والتكفير. وقد زادت أهمية هذه النقطة مع تنامي قدرات الحزب وتوسّعه الإقليمي الهائل في عدة اتجاهات، منها سوريا والعراق واليمن.

ثانياً، تكريس ما أنتجه اتفاق "الطائف" عن سابق تصوّر وتصميم من أحادية حكم، حيث يكون لرئاسة مجلس الوزراء (المؤيدة حكماً للسعودية) السلطة المطلقة، بكل ما يتطلبه ذلك من صلاحيات ومؤسسات ومجالس وصناديق وهيئات وتعيينات أحلَّها الرئيس رفيق الحريري محلّ الوزارات والمؤسّسات، وهو ما عبّر عنه سابقاً في رفض إعطاء الثلث الضامن للثنائي الشيعي و"التيار الوطني الحر" و"المردة" و"الطشناق"، ثم اليوم في فرض تشكيل حكومة لا يملك فيها الحريري النصف زائداً واحداً، بحيث لا يتمكّن أحد من معارضته. 

ثالثاً، تحويل لبنان إلى منصة رئيسية لإسقاط الرئيس السوري بشار الأسد. 

لم تحقق المملكة أيّ هدف من هذه الأهداف الثلاثة، رغم الإنفاق المالي الهائل والصخب الإعلامي والوعود المتراكمة من السياسيين اللبنانيين. 

تراكم الفشل فوق الكذب فوق "الفجعنة" في نهب الأموال، لكن صوت لبنانيّ نافذ لدى استخبارات ولي العهد السعودي محمد بن سلمان أقنعهم بأن المسؤولية عن كل هذا الفشل لا يتحمّلها إلا شخص واحد أوحد: سعد الحريري. 

هنا، ثمة تفصيل أساسي ومفصلي: لا شك في أن رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع، ووزير العدل السابق أشرف ريفي، ووزير الداخلية نهاد المشنوق، كانوا يعتقدون أن تثبيت صفة الفشل سعودياً على الحريري يمكن أن يرفع من شأنهم أو يضاعف موازناتهم (في حال وجودها) أو مكانتهم في المشروع السعودي في لبنان، إلا أنَّ المملكة خذلتهم، فقد كانت تنظر إلى الحريري بوصفه حجر الزاوية في تركيبتها اللبنانية.

وحين وصلت إلى قناعة بعدم جدوى التعويل على الحريري، لم تبحث عن بديل له وسطهم، فقد عمد ولي العهد السعودي إلى تغيير الاستراتيجية المعتمدة مع لبنان كلها: المعروف أن الدول حين تفكر في دول أخرى، إنما تفكر في حلفائها، وفي النفوذ على المدى القريب والمتوسط والبعيد، وفي مصالحها الأمنية والعسكرية والمالية والاقتصادية. أما ولي العهد، فكان له رأي آخر: حاولنا كل شيء، وفشلنا في تحقيق أهدافنا. لا يمكن أن ننتصر. إذاً، يجب أن نمنعهم من الانتصار، مهما كانت تداعيات ذلك على حلفائنا ونفوذنا ومصالحنا ومصالح الدول الحليفة لنا.

انهيار القطاع المصرفي بكلّ ما يمثله من أساس لنظام الطائف السياسي والمالي؟ لا مشكلة أبداً. تجويع الأقربين قبل الأبعدين؟ لا مشكلة أبداً. تفجير الاستقرار الأمني؟ لا مشكلة أبداً. تهديد الاستمرارية السياسية للحلفاء قبل الخصوم؟ لا مشكلة أبداً. فوضى؟ لا مشكلة أبداً. تهديد مستقبل الأجهزة الأمنية التي بنتها الولايات المتحدة برموش عينيها؟ لا مشكلة أبداً. دمِّروا كلّ شيء، وقولوا لكلّ من يعنيه الأمر إنها نتيجة وصول "حزب الله" إلى السلطة.

هكذا، تلاحقت التطوّرات السريعة في ما يمكن وصفه بالمرحلة الثالثة من العلاقات اللبنانية - السعودية، من خطف رئيس الحكومة اللبنانية السابق سعد الحريري، وما تلاه من قرار سعودي واضح بقطع كل أشكال الدعم السياسي والمالي عنه، إلى إنهاء أدوار إمبراطورية آل الحريري في المقاولات وتعهدات البنية التحتية في المملكة بكل موظفيها اللبنانيين، إلى فض عقود كبار المقاولين والمتعهدين اللبنانيين الذين مثلوا منذ أواخر الستينيات الذراع السرية للمملكة في لبنان، وخصوصاً أن ثروات هؤلاء كانت تشتري أسر الموظفين في شركاتهم (وغالبيتهم من مهندسي الطبقة الوسطى) والمسؤولين الإعلاميين عن تسويق أنشطتهم ووسائل الإعلام والكثير من رجال الدين، مروراً بإيقاف حركة الاستقبالات الدائمة للسياسيين اللبنانيين وحاشيتهم، ممن كانوا يجدون حقائب الساعات الذهبية في انتظارهم في الفنادق، ويعودون إلى بيروت عن طريق باريس، حيث يبيعونها، بموازاة قطع العلاقة المالية بغالبية من كانوا يحظون بالدعم المالي، وخصوصاً في البيئة السنية، سواء كانت المجموعات سياسية - أمنية أو وهابية - تعليمية، مع معلومات متداولة عن خفض الموازنة الخاصة بالحزبين المسيحيين الممولين من السعودية إلى أقل من النصف، رغم الإبقاء على التواصل السياسي - الاستخباراتي الوطيد مع هؤلاء، إضافة إلى إلزام غالبية من بقي في المملكة من اللبنانيين العاملين فيها بالانتساب إلى جيش الذباب الإلكتروني، موكلين إليهم مهمة شتم بلدهم، تحت طائلة التهديد الدائم بالطرد، في ظل تضخيم كاذب لأعدادهم، مع إشارة شكلية رمزية تتمثل في تقليص الحضور الدبلوماسي في سفارة السعودية في لبنان إلى أقل مستوى ممكن، بحيث لا يمكن ملاحظة وجود السفير من عدمه.

الاستراتيجية السعودية الجديدة نصّت على انسحاب ميداني في الشكل. أما المضمون، فهو الاستثمار في مسارين أساسيين:

1- الإعلام، مع إدارة مركزية توزع المهام بدقة على أكبر فريق عمل إعلامي جديّ يمكن تشكيله، بهدف وحيد أوحد: شيطنة "حزب الله" وحلفائه وتحميلهم مسؤولية الانهيار الاقتصادي والمالي، مع وجوب التذكير هنا بأنَّ التجربة السورية أكّدت أن جزءاً لا يتجزأ من العدة الإعلامية في الحروب التدميرية هو فرق التمثيل والمسارح، والأهم الأهم هو تلك الشريحة الاستثنائية من الثوار ضد الفساد، الذين لا يحملون بيدهم أو عقلهم ملف فساد واحداً، إنما شتائم مسرحية وأجندة سياسية.

2- استنفار العلاقات السعودية الدولية، وخصوصاً الأميركية (في زمن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب) والفرنسية والمصرية، لقطع الطريق على أي محاولة تسمح للبنان باستعادة أنفاسه.

الهدف من المسارين واحد: تحميل "حزب الله" وحلفائه مسؤولية الانهيار المالي والاقتصادي وكل ما يمكن أن يصيب البلد، من جائحة كورونا إلى غزوة الجراد، مروراً بانفجار المرفأ وتصنيع الكبتاغون وتصديره، وكلّ ما يمكن أن يحصل بين زوجين في منزلهما. وما على اللبنانيين بالتالي سوى الثورة على الحزب، لتسبّبه بهذا كلّه، والحج حفاة إلى السفارة السعودية لطلب الرحمة من ولي العهد، لكن مرة أخرى يتبيّن أنَّ استراتيجية ابن سلمان فشلت في لبنان، كما في سائر بلدان المنطقة.

المسارات التي انتهجتها السعودية ألحقت ضرراً ما بعده ضرره بالبنية الاقتصادية والمالية والاجتماعية، ثم السياسية، لحلفائها في لبنان، فيما هدفها لن يتحقّق. عملياً، يستحيل أن يتحقق. وبالعودة إلى السلاحين السعوديين، يتبيَّن منذ تفجير المرفأ أنَّ الإعلام فقد تلك القدرة على التأثير، والتي ظهرت في 17 تشرين الأول/أكتوبر.

أما الدول الكبرى، من الولايات المتحدة إلى روسيا، مروراً بفرنسا، فإنها تفكر في مصالحها، وتخشى على استثماراتها في لبنان، وهي تعلم أن الفوضى، كما التجويع، كما الدمار الكامل، لا يفيد إلا فريقاً واحداً. وإذا كانت هذه الدول قد تفهَّمت تصرف ابن سلمان كمغرد غاضب يهتف "عليّ وعلى أعدائي" ويهجم، إلا أنها قالت في كثير من الساحات التي دمّرها على نفقته بآلاتها الحربية، إنها لا تستطيع مجاراته أكثر.

عجزت السّياسة السعودية عن إعادة عقارب الزمن في لبنان إلى الوراء، سواء عبر حقائب المال التقليدية وساعات الذهب، أو عبر التكفيريين، أو عبر التجويع والكذب الإعلامي والتدمير. يمكن للأيام الأخيرة من هذه الاستراتيجية المعتمدة منذ عامين أن تستمرّ أسابيع إضافية أو شهوراً أو عاماً أو عامين، إلا أنّ المؤكّد أنّ دولاً كثيرة لم تعد تستطيع مجاراة ابن سلمان فيها، لمعرفتها بعبثيّتها من جهة، وخشيتها على مصالحها من جهة أخرى.

في قاموس المعاني، تُذكر 5 مرادفات لكلمة ذريع. لقد كان فشل ابن سلمان في لبنان ذريعاً، بغيضاً، شنيعاً، مستهجناً، ومعيباً.