يوم القدس وتحرير القدس
يأتي يوم القدس هذا العام في ظروف مختلفة عن الأعوام السابقة، إذ تبشّر الجرائم الصهيونية في القدس بإشعال انتفاضة بدأت ملامحها تلوح في الأفق.
في الجمعة الأخيرة من شهر رمضان المبارك من كلّ عام، يعبّر ملايين العرب والمسلمين عن تضامنهم مع القدس في يوم حمل اسمها، فتقام العديد من المسيرات والمهرجانات واللقاءات في فلسطين وإيران والعراق واليمن ولبنان وسوريا وباكستان وإندونيسيا وغيرها من الدول العربية والإسلامية والعالمية...
تاريخياً، أوّل من أطلق يوم القدس العالمي هو مؤسّس الجمهوريّة الإسلاميّة والمرشد الأعلى للثورة الإسلامية في إيران الراحل الخميني في آب/أغسطس 1979 بعد الثورة، إذ قال: "إنّني أدعو المسلمين في جميع أنحاء العالم إلى تكريس يوم الجمعة الأخيرة من شهر رمضان المبارك ليكون يوم القدس..."، ومن ثم دعمت الجمهورية الإسلامية في إيران القضية الفلسطينية بعد الثورة على نظام الشاه الموالي للولايات المتحدة الأميركية، وأصبحت في حالة عداء مع العدو الصهيوني وحليفه الاستراتيجي الولايات المتحدة الأميركية.
وقد أكّدت الخطوات اللاحقة لطهران هذا التوجّه، فحوَّلت السفارة الصهيونية فيها إلى مقر لمنظّمة التحرير الفلسطينية، واستُقبل الراحل عرفات في طهران استقبال الأبطال، وقدّمت إيران الدعم المالي والعسكري لحركات المقاومة في فلسطين منذ نهاية السبعينيات وحتى تاريخه.
يأتي يوم القدس هذا العام في ظروف مختلفة عن الأعوام السابقة. وما تتعرَّض له القدس من تهديد وتهويد وتغوّل تجاوز كلّ الخطوط الحمر، وباتت الجرائم الصهيونية في القدس تبشّر بإشعال انتفاضة جديدة بدأت ملامحها تلوح في الأفق.
اعتقد الاحتلال أنَّ البيئة الاستراتيجية في المنطقة مهيّأة لتنفيذ مخططاته التهويدية في القدس، فالإدارة الأميركية في عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب منحت الاحتلال أكثر مما توقّع، فاعترفت بكامل القدس عاصمة للاحتلال، بما فيها شرق القدس، ونقلت السفارة الأميركية من تل أبيب إليها، وبدأت مساراً لتطبيع العلاقات العربية مع "إسرائيل" على قاعدة المصالح المشتركة في المنطقة وتحويل العداء من الاحتلال الصهيوني إلى العداء لإيران.
وقد نجح مسار التطبيع بشكل علني في دول الإمارات والبحرين والمغرب والسودان وغيرها، وتكثّف التطبيع غير المعلن رسمياً مع السعودية، واعتقد الاحتلال أنَّ محور المقاومة في المنطقة يعاني أزمات لا تمكّنه من الرد على جرائمه وعدوانه داخل فلسطين وخارجها، فإيران تعاني عقوبات وأزمات اقتصادية وسياسية بعد انسحاب إدارة ترامب السابقة من الاتفاق النووي، وهي تسعى للعودة إلى الاتفاق بعد تولي إدارة بايدن ومغادرة ترامب، و"حزب الله" في لبنان يعاني أزمات داخلية واقتصادية، وحماس تعاني حصاراً اقتصادياً، وحركة "فتح" مفكّكة، ورئيسها أبو مازن متمسّك بمسار المفاوضات والتنسيق الأمني مع الاحتلال، للحفاظ على استقرار سلطته في الضفة الغربية المحتلة.
لم يكن تقدير الموقف الصهيوني على قدر من الدقّة بكلّ جوانبه. فلسطينياً، انتفض المقدسيون، وحقّقوا إنجازاً مهماً، وأجبروا الاحتلال على التراجع عن قراره بإغلاق مداخل أبرز شوارع القدس المؤدية إلى أحد أهم بوابات المسجد الأقصى المبارك، "باب العمود"، وحرمان المقدسيين من التواجد في المدرج والساحة الرئيسية، فثار المقدسيون رفضاً للقرار، ونظّموا مواجهات ضد قوات الاحتلال في القدس، وهتفوا للمقاومة التي ردّت من غزة بإطلاق عشرات الصواريخ على مواقع للاحتلال. وفي الضفة، نفّذت خلية فلسطينية عملية جريئة ضد نقطة عسكرية إسرائيلية، أسفرت عن عدد من القتلى والجرحى.
إقليمياً، أشارت وسائل الإعلام الإيرانية إلى أنَّ الصاروخ الذي سقط قرب مفاعل "ديمونا" في النقب المحتل هو صاروخ إيراني، وأنه جاء ضمن سلسلة ردود إيرانية شملت استهداف سفن "إسرائيلية"، رداً على الاعتداءات الصهيونية المتكررة على إيران.
إنّ القدس، ببعدها الحضاري والتاريخي والديني، لها مكانة خاصّة في قلب الأمة العربية والإسلامية، والاحتلال يدرك التعقيدات المحيطة بأيّ قرار يتخذه تجاه المدينة المقدسة، وفي الوقت نفسه يسابق الزمن لتهويد القدس، وفرض مخطّطه للتقسيم المكاني والزماني في المسجد الأقصى.
وقد بدأ خطوات سابقة في هذا الاتجاه، واجهها المقدسيون وأفشلوها، ولا سيما مخطط وضع كاميرات مراقبة على مداخل المسجد الأقصى وبواباته، وهو يستمر في حفر الأنفاق أسفله، بهدف إقامة "الهيكل" المزعوم على أنقاضه.
من أبرز عوامل التوتر الحالية التي قد تشعل مزيداً من المواجهات في القدس، وفي فلسطين عموماً، وربما خارج فلسطين، عزم الاحتلال على اقتراف جريمة طرد المقدسيين من مدينتهم، عبر هدم بيوتهم وترحيلهم منها، وإحلال المستوطنين اليهود مكانهم، في سرقة علنية في وضح النهار، ومصادرة آلاف الدونمات المقدسية، والبدء بخطوات عملية لإزالة أحياء سكنية بالكامل، مثل حي الشيخ جراح وحيّ البستان، كجزء من مخطط استيطاني مستمرّ يهدف إلى السيطرة على مدينة القدس.
ومن المتوقّع أن تصدر المحاكم الصهيونية "الصورية" خلال أيام أحكاماً بهدم بيوت فلسطينية في حي الشيخ جراح وإزالتها، ولاحقاً إزالة حي البستان الملاصق للمسجد الأقصى المبارك. وما يزال المقدسيون يعتصمون ويتظاهرون يومياً لمنع سيطرة المستوطنين على منازلهم وأحيائهم.
التهديد الَّذي أصدرته الغرفة المشتركة للمقاومة بعد خطوة الاحتلال في القدس وإغلاق مداخل باب العمود والاعتداءات على المقدسيين، والتي أعقبها إطلاق ما يقارب 40 صاروخاً تجاه مواقع إسرائيلية، قد يتكرر في الأيام القادمة في حال أقدم الاحتلال على هدم المنازل في حي الشيخ جراح، والعملية العسكرية التي نفّذتها خلية مقاومة على حاجز زعترة الاحتلالي في نابلس، قد تتكرّر أيضاً في رام الله والخليل وجنين، والهبّة الشعبية وصدّ المستوطنين في القدس قد يتطوّران إلى انتفاضة شعبية قد تمتدّ إلى المثلث والجليل ويافا والناصرة، والحرب الباردة بين "إسرائيل" وإيران و"حزب الله" قد تتصاعد أكثر، وخصوصاً أنَّ فاتورة الانتقام زادت وبدأت ملامح تسديدها تلوح في الأفق.
في يوم القدس، يوم الجمعة الأخيرة من شهر رمضان، تعتزم الجماعات الصهيونية المجرمة تنظيم اقتحام جماعي للمسجد الأقصى. وقبله بيوم، تعتزم المحكمة الصهيونية إصدار قرار بخصوص ترحيل مقدسيين من حي الشيخ جراح. المقاومة تترقّب، والشعب الفلسطيني يتأهّب، ومحور المقاومة يستعدّ، فهل يتحوَّل يوم القدس إلى يوم الثورة من أجل القدس؟
ما زالت الطموحات والآمال تنعقد كي يصبح يوم القدس يوماً لتحريرها.