"التشبيك" في وجه "التطبيع"
تحتاج بلادنا إلى صياغة جواب متكامل عن الرسائل التي يبثّها بيننا "مشروع التطبيع"، وإطلاق "مشروع التشبيك"، ورفع مستوى التعاون بين دول المشرق العربي.
من الواضح أنَّ ما يجري بين دول عربية و"إسرائيل" ليس "تطبيعاً" بالمعنى الذي درجت عليه الكلمة في نهاية السبعينيات، وأعيد إحياؤها في مطلع التسعينيات من القرن الماضي. نحن أمام "نسخة متحوّرة" أشدّ فتكاً، يصحّ وصفها بالتحالف الاستراتيجي بين "إسرائيل" والدول المنضمّة حديثاً إلى نادي الاعتراف بها والتعامل معها بوصفها عنصراً طبيعياً من عناصر المنطقة.
رغم فداحته وخطورته، ظلَّ "التطبيع" الذي قامت به كلّ من مصر والأردن خجولاً. ولم يكن لكلّ من "كامب ديفيد" في العام 1977 و"وادي عربة" في العام 1994، وجوه اقتصادية وثقافية واضحة أو نافرة. وعندما كانت تبرز خطوة فردية من هذا النوع، كانت القوى الشعبية والمجتمع الأهلي والهيئات المهنية تتصدى لها بكل حزم، الأمر الذي جعل الأمر مقتصراً في الشكل على علاقات دبلوماسية وتنسيق سياسي وأمني وسياحة من طرف واحد، هو "الإسرائيلي"، وظلت الحكومات المعنية تفضّل أن تبقى التزاماتها مع العدو خفية غير معلنة، مراعاة – ربما - لوجدان شعوبها، وحفاظاً على ماء الوجه.
ما يجري اليوم مختلف جداً. ثمة صيغة منقحة أكثر فجوراً واستفزازاً، عمادها التهوين من شرعية الحق الفلسطيني عند الجمهور العربي والإسلامي، والترويج للعلاقات الثقافية والفوائد الاقتصادية للتطبيع، في ظل واقع اقتصادي اجتماعي صعب تعيشه بلاد المشرق العربي غرب آسيا.
يجتهد إعلاميون ونشطاء ورجال أعمال من جنسيات عربية مختلفة في إنكار حقوق الشعب الفلسطيني، ويعيدون إنتاج "الكيان الإسرائيلي" عبر مقالات وفيديوهات وتغريدات يتراوح محتواها بين حق "إسرائيل" بالوجود و"حاجة المنطقة إلى دولة مثل إسرائيل" وجامعاتها وعلومها وابتكاراتها في عالم التكنولوجيا وتقنيات المياه...
يتمحور خطابهم "الموجّه" حول الخداع والإبهار البصري واللفظي، وضخّ المعلومات الكاذبة، وإطلاق المقارنات السطحية حول قدرات "إسرائيل" الاقتصادية وقدرات خصومها وضحاياها. هذه البروباغندا الهائلة ليست موجّهة إلى كل شعوب المنطقة على السواء. يأتي قسم منها لتبرير هذا المسار أمام شعوبهم، والقسم الأكبر يستهدف بشكل محدد شعوب لبنان وسوريا والعراق واليمن وكل دولة لم تقع بعد في هذا المصير.
يريدون لهذه الشعوب الاقتناع بأنَّ منطق الصراع من أجل الحق ومقاتلة الاحتلال وتحرير الأرض والتصدي للإرهاب، مؤداه الفقر والعوز وتدمير الاقتصاد وانهيار منظومات الخدمات والبنية التحتية، ويغفلون عن عمد الأسباب الحقيقية للضعف الاقتصادي والتردي الخدماتي. لا يذكرون مثلاً كلفة الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين وآثاره في دول المنطقة، من أزمة اللاجئين القائمة منذ 73 عاماً، إلى سياسة تصدير الأزمات نحو دول الطوق، ولا يتطرّقون إلى الاحتلال والحروب الإسرائيلية وتأثيرها في الاستقرار والنمو والاستثمار في بلادنا، ولا يتحدثون عن احتلال العراق وتداعياته على العراقيين أولاً، وعلى لبنان وسوريا والأردن ثانياً.
لا يذكر أحد الحرب الكونية على سوريا وتدمير مدنها وبنيتها التحتية ومصانعها وتهجير صناعييها وحرفييها وجرف أراضيها الزراعية، ولا يخرج أحد منهم ليقول كم كانت كلفة الحرب الإرهابية على سوريا، وكم كانت انعكاساتها الاقتصادية على لبنان مدمرة!
لا ينفي ذلك الأسباب الذاتيّة لفشل تجربة الدولة الوطنية الحديثة لدى معظم العرب. الفساد، وسوء الإدارة، وقمع الحريات العامة، وضعف المشاركة السياسية، وتمكين المرأة... جميعها أسباب تقع في صلب ما وصلت إليه أحوال بلادنا، ولا شكّ في أنها مثلت فجوات نفذ منها كل متربص وطامع وطامح.
ثمة أسباب ذاتية للفشل، وأُخرى موضوعية. وفي الحالتين، "التطبيع" ليس ترياقاً، وليس خياراً للتحديث والتطوير، بل الإصلاح وسد الفجوات ومكافحة الفساد وبناء النموذج الوطني النظيف والقادر على التعامل مع تحديات العصر.
أثبتت التجربة أنَّ في وسع شعوبنا مواجهة المخاطر العسكرية والأمنية، وتحقيق الإنجازات، وخلق حالة من التوازن العسكري الردعي مع العدو. ولعلَّ أبرز التحديات التي تواجهها دول المنطقة وشعوبها حالياً هو تحدّي إعادة بناء "الدولة الوطنية" خارج الوصاية الغربية والنظريات القائمة على فكرة الخلاص في التقارب مع "إسرائيل".
الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والخدماتية هي المعيار لتقدم الدول والمجتمعات أو تأخرها في هذا الزمن. لقد جرى تقويض تجربة الاتحاد السوفياتي من خلال الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية، لا العسكرية، وكذلك الحال مع التجربة الناصرية.
إنَّ استنزاف مشروع الدولة الوطنية الحديثة التي نشأت عقب "سايكس بيكو" وعرقلته وتقييده يتلخّص في تجربة جمال عبد الناصر. راجعوا كيف حوصر هذا النموذج وأجهض بكل أنواع التآمر والأزمات. لا شكّ في أن لهذه التجربة أخطاء، وربما خطايا، لكنها كانت تعبر عن براءة وطنية حالمة، وتحمل مشروعاً سياسياً واقتصادياً يرتكز على مفهوم التحرر والقرار المستقل والعدالة الاجتماعية والإنتاج.
تحتاج بلادنا اليوم إلى صياغة جواب متكامل عن الرسائل التي يبثّها بيننا "مشروع التطبيع"، وإطلاق "مشروع التشبيك*"، ورفع مستوى التعاون والتنسيق السياسي والاقتصادي بين دول المشرق العربي.
إنَّ العمل وفق رؤى وخطط تنموية واقتصادية تشاركية ينعكس إيجاباً على اقتصاد دولنا. وقبل ذلك، لا بدّ لكل دولة من هذه الدول من أن تخوض معركتها مع الذات، بحيث يجري تحرير الدولة ومؤسَّساتها من الفساد والهدر وسوء الحوكمة، وإطلاق ورش البنى التحتية والمواصلات الحديثة والخدمات. لدى لبنان وسوريا مقدّرات وموارد وإطلالة استراتيجيّة على البحر المتوسط يحتاج إليها العراق، ولدى بغداد قدرات بشرية موارد وثروات وأسواق تحتاج إليها بيروت ودمشق.
المطلوب أن تتوفّر الإرادات ويتمّ اتخاذ القرار. عندها، تُسد أبواب التطبيع وذرائعه، وتصبح كلّ الدعاية التي نشاهدها مادّة للسخرية وإدانة المطبّعين.
*مصطلح "التشبيك" أطلقه المناضل الراحل أنيس النقاش.