هل ستعيد تركيا تموضعها مع الغرب؟
تركيا الطّموحة إلى أداء دور إقليميّ أكبر من تصوّرات واشنطن لها، وجدت في موسكو خصماً يتفهّم طموحاتها، لكنه يظهر أظافره في الوقت المناسب.
لم يكن الاعتراف الأميركي بالإبادة الأرمنية الضربة الأولى التي تتلقاها تركيا "العدالة والتنمية"، فالولايات المتحدة كانت قد تخلّت عن موقفها المتوازن بشأن العلاقات التركية اليونانية، ودعمت جمهورية قبرص اليونانية علناً، في مواجهة مواقف تركيا في الخلاف مع اليونان وفي شرق المتوسط، وكانت قد هددتها بعقوبات "كاتسا" بعد عملية شراء الـ"أس 400"، التي كانت الخطوة الأكثر إشكالية من الناحية الاستراتيجية في تاريخ تركيا والأكثر كلفة، إذ تم منع تسليمها طائرات "F-35" كرد فعل قاسٍ، على الرغم من أنها دفعت ثمنها وشاركت في عملية إنتاجها، وقدّرت خسارتها بمليار ومئتي ألف دولار.
ترك بايدن بعد أن تبوّأ سدة الرئاسة تدبير شأن التعامل مع تركيا للأوروبيين، مع تجديد اتفاق اللاجئين للعام 2016 ومشكلاتها في شرق البحر الأبيض المتوسط، كذلك موضوعات الحريات وحقوق الإنسان، إلا أنه أكد أنه سيتواصل معها إذا دعت الحاجة.
أتى التواصل المنتظر في 23 نيسان/أبريل، لكن على شكل إبلاغ إردوغان بموقف بايدن المعلن في 21 نيسان/أبريل، والذي نشرته جريدة "نيويورك تايمز"، حول المسألة الأرمنية ومسؤولية العثمانيين عن ارتكابها. وقد جرى التركيز على الاجتماع الذي سيعقد إبان قمة الأطلسي في حزيران/يونيو.
أما استكمال العلاقة الاستراتيجية، فقد أكده في ما بعد الجنرال مكانزي، قائد السنتوكوم، من دون إغفال أن للعلاقة الاستراتيجية شروطاً أعلنها وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، عندما صرح أن تركيا لا تستطيع أن تكون حليفة استراتيجية للناتو وأن تتوافق مع روسيا؛ أحد أكبر منافسي الولايات المتحدة الاستراتيجيين.
طبيعة العلاقات الروسية التركية بالنسبة إلى إردوغان
ركّز إردوغان سياسته بين روسيا والولايات المتحدة الأميركية منذ العام 2016، وهو يحاول أن يؤكد للغرب أن حكومته هي العضو الوحيد في الناتو الذي أثبت مقدرته على مواجهة روسيا وتوسعها في كل من ليبيا وسوريا، وأن طائراته من دون طيار ألحقت ضربات موجعة بها وبحلفائها.
كذلك، خاض حرباً في ناغورنو كاراباخ، أي في مجال نفوذ روسيا في القوقاز، لكنه أكد موقفه الداعي إلى "إنهاء احتلال جمهورية القرم ومدينة سيفاستوبول"، وأظهر في تشرين الأول/أكتوبر 2020، في أول زيارة للرئيس الأوكراني زيلنسكي، أهمية العلاقة الأوكرانية التركية على الصعيد العسكري والتعاون التكنولوجي والسياسي.
وفي قمته الأخيرة في إسطنبول في 10 نيسان/أبريل، أثار زيلنسكي مسألة حشد القوات الروسية على الحدود، فدعاه الرئيس التركي في المذكرة التصالحية إلى ضرورة وقف التصعيد بينه وبين روسيا، وأعرب أيضاً عن دعمه لأوكرانيا، وهو يريد أداء دور الوسيط في مناطق الصراع التي يمكن أن تتضرّر تركيا من خلالها، ولا سيما في البحر الأسود، وذلك في رسالة إلى كلّ من موسكو وواشنطن.
ثمّة تساؤلات في الداخل التركي حول الفائدة من علاقة تركيا بروسيا، فهي، بحسب المنتقدين، لم تتلقَّ أي دعم دبلوماسي من موسكو، بل إن المناطق التي تدخلت فيها كانت مناطق نزاع بين الطرفين، لكن تركيا تعتبر أنها تقوم بحماية مصالحها ومصالح الناتو نيابة عن الغرب، وتتحدث إلى الروس من موقع قوة.
تلاقي هذه الحجة بعض المؤيدين في بروكسل، لكن بايدن لا يرى الأمور من هذه الزاوية، إذ تتمسّك الولايات المتحدة بسياستها، وتطالب تركيا بالتخلي عن الصواريخ الروسية، وهو ما يعني الالتزام بمعاييرها ومعايير الناتو. ترى واشنطن أن الكرملين يراعي مصالح تركيا في العلاقة مع الغرب، لأنها تفيده، وهو يعي أنها تراعي مصالحها، لكنه يحتفظ بنفوذه الاستراتيجي، فتركيا تقع على حدود سوريا، وروسيا صاحبة النفوذ في هذه المنطقة، كذلك في القوقاز؛ حديقتها الخلفية. أما إردوغان، فهو لا يخاطر باستعداء موسكو - هذا ما أظهرته القمة مع زيلنسكي - وهو يريد الاستمرار في تحقيق التوازن في السياسة الخارجية بين الغرب وروسيا والانفتاح على الصين بشكل متزايد.
أين تركيا في حال قيام تحالف استراتيجي في شرق المتوسّط؟
يرى بعض المحللين الأتراك أن المشكلة تكمن في السياسة الخارجية التي يتبناها إردوغان، وأن تركيا تتحرك في المحور الخاطئ، وعلى أرضية إشكالية للغاية، ويرون أيضاً أنها تحتاج إلى تغيير عقليتها في السياستين الخارجية والداخلية. وقد أثبتت عملية شراء "أس 400" أنها خاطئة، نظراً إلى عواقبها الاقتصادية والعسكرية، ولا يمكن دمج نظام الدفاع الصاروخي هذا في شبكة الدفاع الجوي لحلف الناتو، وستكون وظيفته محدودة للغاية كنظام مستقل.
وفي حين أنَّ مبرّر ترك أنظمة صواريخ "باتريوت" كان رفض نقل التكنولوجيا، فقد تمت عملية الشراء من روسيا من دون أي نقل للتكنولوجيا. ويؤكد المحللون أن على إردوغان دعم دعاة العودة إلى الغرب في الداخل، والقيام بإصلاحات تطال القوانين والحريات وحقوق الإنسان التي ستساعده في دعم علاقاته على الصعيد الدولي، والأهم هو إعادة تعريف العلاقات مع روسيا، وخصوصاً في ظل تحديد واشنطن لخصومها الاستراتيجيين، روسيا والصين، وضرورة الصراع من أجل كسب القرن الواحد والعشرين.
تعبّر هواجس بعض السياسيين والمحلّلين الأتراك عن ضرورة الوقوف إلى جانب الغرب، ولا سيّما في ظل عدم الانسحاب الكامل للولايات المتحدة من المنطقة، والذي يبدو أنّه غير مطروح في جدول الأعمال في الوقت الحالي. النقطة المؤكّدة هي أنّ الولايات المتحدة تريد من حلفائها في المنطقة نبذ الخلافات وتحمّل المزيد من المسؤولية.
يصبّ استكمال بعض دول المنطقة لخطوات التطبيع مع "إسرائيل"، والتي بدأت مع الإمارات، وتبعتها كل من البحرين والسودان والمغرب، في محاولة تمكين "إسرائيل" من بعض التفوّق في المنطقة، والتحول التدريجي من أجل تكوين حلف استراتيجي وثيق الترابط، وخصوصاً إذا ما نظرنا إلى قطر وتركيا من جانب، واليونان وجمهورية الكونغو ومصر و"إسرائيل" والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة من جانب آخر، إذ تتمدّد الدولتان الأخيرتان عسكرياً في شرق البحر الأبيض المتوسط. جميع هذه الأطراف تساهم في النزاعات التي تبدو سطحيّة، لكنهم، جميعاً، إما في الناتو وإما حلفاء للولايات المتحدة.
يمكننا فهم هذه الهواجس، إذ إنّ تركيا بحاجة إلى الغرب، وإلى إعادة بناء علاقات ودية واستراتيجية معه، لكنها لا تريد العودة إلى الدور الوظيفي السابق مع هذه الكتلة الغربية، بل إنها تسعى إلى دور يميزها كموقع استراتيجي وكدولة إقليمية منتجة للطائرات من دون طيار، والتي أثبتت فعاليتها ونالت شهرتها، وهي تأمل إصلاح أسطولها البحري وتطويره، وتعي حاجتها إلى التكنولوجيا الأميركية، وتأمل تحويل السفينة إلى حاملة طائرات استطلاع وهجوم من دون طيار، وهو مشروع طموح لا يخلو من التحديات التقنية والتشغيلية.
تركيا الطّموحة إلى أداء دور إقليميّ أكبر من تصوّرات واشنطن لها، وجدت في موسكو خصماً يتفهّم طموحاتها، لكنه يظهر أظافره في الوقت المناسب، ويهادن حيث يجب، فهل فات زمن العودة إلى الوراء أو أنَّ تهديد الاقتصاد الذي يعوّل عليه حزب "العدالة والتنمية" من أجل تجديد سلطته وحكمه سوف يجبره على الإذعان للشروط الأميركية؟