النّهوض ما بعد اللقاح: هل يغيّر وجه أوروبا؟
سوء الإدارة وعدم الفعالية التي تعامل بها الاتحاد الأوروبي مع جائحة كورونا سيكونان عاملاً مساهماً في صعود اليمين والمتشائمين من مستقبل الاتحاد والمطالبين بالعودة إلى السياسات الوطنية.
لا شكّ في أنَّ جائحة كورونا فرضت تحديات جمّة على جميع دول العالم، سواء على الصعيد الصحّي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو غير ذلك. وقد بدا أنَّ هناك عجزاً في التعاطي مع الجائحة في مختلف دول العالم، وخصوصاً الدول الصناعية الكبرى، التي من المفترض أنَّها أكثر قدرةً على التعاطي مع هذا النوع من التحديات التي تفترض جهوزية صحية ومالية وإدارية لا تمتلكها الدول النامية.
بعد مرور أكثر من عام على انتشار الجائحة، تشير الإحصائيات إلى أن أوروبا سجلت العدد الأكبر من الإصابات عالمياً، كما سجّلت أرقاماً من أعلى معدلات الوفيات في العالم. وقد أظهرت موجات كورونا الأولى والثانية في الاتحاد الأوروبي عدم قدرة الاتحاد على التعاطي بفعالية في موضوع مواجهة جائحة صحّية عالمية، بحيث كانت النتائج سيّئة، سواء في السرعة أو التنظيم أو التعاطي بمسؤولية والخروج من الاعتبارات الوطنية الضيّقة.
أمّا في الموجة الثالثة الّتي ترافقت مع انتشار اللقاح وتوسع حملات التطعيم في العالم، فقد ظهرت أوروبا متأخرة عن باقي الدول الصناعية الكبرى في شراء اللقاح وتوزيعه، وفي نسبة المواطنين الذين تمّ تطعيمهم.
تتنوع الأسباب التي أدّت إلى تلك النتائج، ونشير إلى أبرزها بما يلي:
- البيروقراطية البطيئة
لقد أظهرت جائحة كورونا عجز بيروقراطية بروكسل عن التعامل بفعالية مع التحديات السريعة والمستجدة، وتبيَّن أن آليات تفويض السيادة إلى خبراء غير منتخبين في بروكسل يمكنها أن تسير بفعالية في الأوقات العادية، ولكن الماكينة البيروقراطية البطيئة غير قادرة على اتخاذ قرارات بالسرعة اللازمة التي يستوجبها التعامل مع كورونا وسرعة انتشاره.
- عجز آليات التكامل الوظيفي
دخل الاتحاد الأوروبي في إشكالية مهمة هي تضارب المصالح بين الأوروبي والوطني، فأوروبا مندمجة بشكل لا تستطيع معها أن تعالج كل دولة مشاكلها بطريقة مستقلة ومنفردة بشكل تامّ، ولكنها ليست مندمجة إلى الحد الذي يجعلها تستطيع أن تتخذ قرارات هرمية بشكل حاسم، كما هو حال الدول الفيدرالية، كالولايات المتحدة أو روسيا أو غيرها.
لم يكن باستطاعة تكنوقراط الاتحاد الأوروبي (غير المنتخبين) أن يفرضوا قرارات على المواطنين داخل الدول، بل إن هذا الأمر ظلَّ من صلاحية السلطة السياسية داخل كل دولة على حدة، وبالتالي في صراع البقاء والموت الزاحف. كانت السلطات السياسية الوطنية والمحلية تتصرّف بحسّ غرائزيّ وطنيّ طبيعيّ في تلك الظروف، فتقرّر ما يناسب مواطنيها، بغض النظر عما يعنيه ذلك بالنسبة إلى باقي دول الاتحاد أو مؤسسات الاتحاد الأوروبي البيروقراطية.
وفي موضوع اللقاحات، عجز الاتحاد الأوروبي عن الإسراع في تأمينها، وتأخَّر في اتخاذ القرار بالمساهمة وتمويل مختبرات لصنع لقاحات أوروبية خاصّة. وعلى الرغم من مساهمة الشركات الأوروبية في اللقاحات، فإنَّ البريطانيين والأميركيين استحوذوا على الحصص الأوفر والأسرع منها، بسبب الاستثمار المبكر الذي قاموا به في دعم تلك الأبحاث وتمويلها.
كلّ هذه الأمور ساهمت في تعميق الخلل والهوة بين الدول الأوروبية، فدول أوروبا الشرقية والدول الأكثر فقراً تعثرت، بينما استطاعت الدول الأكثر غنى في الاتحاد أن تؤمّن لنفسها ولمواطنيها مستوى أفضل من التعامل المؤسّساتي والصحي مع الجائحة.
وساهم التأخّر في توزيع اللقاح داخل الاتحاد في سعي كلّ دولة لتأمين لقاحاتها من مصادر مختلفة، ما جعل الدول التي وجدت نفسها على الهامش تسعى لتأمين اللقاح من روسيا والصين، تماماً كما حصل في بداية الجائحة، حين وجدت هذه الدول نفسها متروكة من قبل الاتحاد الأوروبي والدول الغنية فيه، فلجأت إلى الروس والصينيين للمساعدة.
إلى أين سيؤدّي ذلك؟
إنّ سوء الإدارة وعدم الفعالية التي تعامل بها الاتحاد الأوروبي مع جائحة كورونا سيكونان عاملاً مساهماً في صعود اليمين والمتشائمين من مستقبل الاتحاد والمطالبين بالعودة إلى السياسات الوطنية.
كما أنَّ التسييس الذي انخرط فيه الأوروبيون في موضوع اللقاحات وتوزيعها، وخصوصاً في معركتهم مع بريطانيا حول بريكست، والتفاوت - الذي سببه الفشل في إدارة الجائحة - بين دول غنية ومقتدرة ودول عاجزة وجدت نفسها على الهامش، سيدفع إلى التشكيك في شرعية مؤسسات الاتحاد الأوروبي وفعاليتها من قبل العديد من الأوروبيين، حتى أولئك الذين يؤيدون الاندماج الأوروبي بقوة، وهو ما قد يغيّر الكثير من المعادلات الانتخابية، وبالتالي السياسات الوطنية داخل الاتحاد.
وبما أنّ العديد من دول الاتحاد ستجري انتخاباتها في العامين القادمين، فإن سرعة النهوض الاقتصادي والخروج من الجائحة ستكون عاملاً أساسياً في التوجّهات الانتخابية للعامين 2022 و2023، وبالتالي إن التأخّر في فتح الأسواق وعدم قدرة الاتحاد على الاتفاق على سياسة إنفاق لتحقيق نهوض اقتصادي تنموي لفترة ما بعد الجائحة، سيجعلان من تلك الانتخابات عاملاً لصعود غير مسبوق لليمين الأوروبي، على الرغم من خسارة اليمين (بخسارة ترامب) في الولايات المتحدة الأميركية.