هيل في بيروت: العودة إلى عون
خلال الزيارة، كان يصعب تكوين صورة عنها، لكن بعد بضعة أيام، بات ممكناً تكوين فكرة كاملة عما فعله الرجل والتوجهات الأميركية المتغيرة، بحكم فشل التركيبات المتتالية الآيلة إلى إضعاف الحزب.
قبيل الانتخابات الرئاسية الأميركية، كان مساعد وزير الخارجية للشؤون السياسية ديفيد هيل يؤكّد لأصدقائه اللبنانيين، وخصوصاً سعد الحريري، أنّه موظّف ثابت، وليس متعاقداً مثل (مساعد وزير الخارجية السابق) دايفيد شينكر. وبالتالي يمكن أن يتغير الأخير، فيما سيبقى هو، مغدقاً على الحريري بالنصائح، إلا أنَّ ما ينشر في المواقع الأميركية يؤكد أن الرجل لم يحسن نصح نفسه أولاً، فالإدارة الجديدة لم تجدّد التعاقد مع شينكر، لكنها لا تبدي أية حماسة لتكليف هيل بأية مهمة، إذ تفضّل اختيار عدة عمل جديدة، وخصوصاً حيث فشلت الإدارة السابقة، وهو ما يدفعه إلى الاستنفار بحثاً عن دور ما في المنطقة، إذ زار بيروت بحثاً عن تصوّر يقدمه لمرؤوسيه، أملاً بتعيينه كمبعوث أميركيّ خاص في ملف الغاز وترسيم الحدود.
والبداية من الملاحظات الشكلية:
1- سقوط مشروع استبدال حلفاء الولايات المتحدة الأصيلين بطبقة سياسية جديدة من الناشطين في المجتمع المدني، وهو ما كرسه دايفيد شينكر في آخر زياراته، تزامناً مع تكريس نشطاء السفارة فشلهم على جميع المستويات، بتأكيد مراكز الاستطلاع المقربة من السفارة الأميركية، مع العلم أن الحملة لم تبدأ بعد على نهب هؤلاء للأموال والمساعدات المخصصة لإعادة إعمار المناطق المحاذية للمرفأ، فعادت الولايات المتحدة ممثلة بهيل إلى الأصيلين بدلاً من وكلائهم، إذ ركزت المواعيد على الأصدقاء التقليديين، من وليد جنبلاط وميشال معوض إلى نجيب ميقاتي، مروراً بسليمان فرنجية وسمير جعجع وسامي الجميل والبطريرك الماروني والرئيس نبيه بري، وطبعاً رياض سلامة.
2- استثنى هيل من لقاءاته رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، لكن بدا واضحاً أن استثناء التيار الوطني الحر غير مفيد، ولا يحقق غاية الولايات المتحدة وأهدافها، فحصل لقاء (معلن هذه المرة) مع وفد من التيار.
3- أظهرت مروحة لقاءات هيل الواسعة أن بعض من يحاولون أداء دور الوسطاء (جامعة الدول العربية)، إنما هم ملكيون أكثر من الملك، فهم يقاطعون فرقاء أساسيين، رغم أن مهمتهم تقتضي محاورة الجميع، فيما واشنطن طرف في الصراع، وتلتقي بعض من لم يلتقوهم.
4- كرّر هيل حديثاً لا يتمتع بأية مصداقية عن إجراءات عقابية بحق من "يواصلون عرقلة تقدّم أجندة الإصلاح"، وهو تهديد كان يمكن أن يؤثر قليلاً في السابق، لكن بعد استخدام واشنطن هذا السلاح بغباء، لم يعد ينفعها التهديد به. والمضحك هنا أن هيل يتحدث عن معاقبة من يعرقل أجندة الإصلاح (وفي مقدمتها التدقيق الجنائي طبعاً)، ثم يذهب متبسماً لتناول الغداء مع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة؛ العنوان الأول والأبرز لعرقلة أجندة الإصلاح.
5- الاكتفاء طيلة ثلاثة أيام بموقف مختصر هزيل ضد "حزب الله"، لرفع العتب ليس أكثر، إذ انتقل المبعوث الأميركي من مرحلة التهديد والوعيد و"التشمير" عن الساعدين لنزع سلاح "حزب الله" بالقوة إلى مرحلة الاكتفاء بالقول إن أنشطة الأخير تقوض مؤسّسات الدولة، وتحول دون بناء اللبنانيين بلداً مسالماً مزدهراً، وكأن اللبنانيين لا يعرفون من كان المسؤول عن بناء هذا البلد، وماذا بنى بكل هذه الديون.
واللافت هنا في الشكل أيضاً أن مصادر الصرح البطريركي تحدثت عن تركيز البطريرك طوال لقائه مع هيل على أهمية المؤتمر الدولي وجدول أعماله، لكن هيل لم يتطرق، ولو لرفع العتب، إلى الموضوع في تصريحاته، لمعرفته بأنه مشروع فاشل آخر تمت تجربته من قبل.
6- كرر هيل أكثر من مرة في اللقاءات المقفلة أن أولويات الولايات المتحدة كالتالي: 1. كورونا. 2. الخروج من الركود الاقتصادي الأميركي المخيف. 3. الصين. 4. الصين. 5. الصين. 6. الصين. وفي آخر القائمة إيران.
هذا كله في الشكل. أما في المضمون، فثمة بند وحيد: ترسيم الحدود.
تشير المعلومات إلى تأكيد هيل ثلاث مرات في عشاء واحد أنَّ الطرف الذي يقول إن الولايات المتحدة طلبت تعديل المرسوم 6433 كاذب، لكن ألا "تمون" الولايات المتحدة على قيادة الجيش؟ سأل أحد الحاضرين في العشاء، وتبعه ثانٍ وثالث في الاتجاه نفسه، فرد الضيف بدبلوماسية أن اتفاق الإطار استغرق سنوات عديدة من العمل المشترك مع الرئيس بري، وهو الأساس الذي لا يمكن للبنان نسفه بـ"شطبة قلم"، كما فعل الوفد العسكريّ اللبناني المفاوض، و"خلافاً لكل كلام آخر، ثمة انزعاج أميركيّ كبير من طرح الخط 29 من دون تنسيق مسبق، رغم العلاقة الوطيدة المفترضة بيننا وبين قيادة الجيش".
هنا، برز سؤال إضافي عما إذا كان لذلك علاقة بعدم الاستجابة الأميركية لطلب قيادة الجيش دعماً أميركياً مالياً للجيش اللبناني، إلا أن الضيف أكد أن بعض الطلبات تدرس فعلاً، والدعم التقليدي يتواصل. وقد أشار هيل إلى أن الولايات المتحدة تريد المفاوضات، لكن هذا الطرح عطلها وولد ما وصفه برد فعل إسرائيلي عدائي جداً.
وفي لقاء آخر، قال المبعوث الأميركي: "خلافاً لأي كلام آخر، الأميركيون لم يكلفوا أحداً النطق باسمهم في لبنان... كل ما يوحي به البعض كذب". هنا، بدا واضحاً أن موقف القوات اللبنانية وقيادة الجيش المتمسكين بتعديل المرسوم 6433 لغرض المزايدة الداخلية على رئيس الجمهورية، إنما يتعارض بالكامل مع الموقف الأميركي ويضرّ به، علماً أنّه قبل زيارة هيل لم يكن واضحاً بالفعل ما إذا كانت الولايات المتحدة و"إسرائيل" تريدان الاستمرار في المفاوضات، فأمّن الأميركي عذراً لنفسه من أجل التهرب، أو أنّ طرح الخط 29 كان قراراً لبنانياً حراً سيداً مستقلاً لا علاقة للأميركيّ به، وقد تبين في نتيجة الزيارة أن هيل يريد العودة إلى طاولة المفاوضات قولاً لا فعلاً.
هنا، ثمة ملاحظتان أساسيتان: أولاً، الرجل لديه مصلحة شخصية في عودة المفاوضات، باعتباره آخر من بقي من الإدارة السابقة على اطلاع على هذا الملف، ويمكن أن تعيد له عودة المفاوضات دوراً ما. ثانياً، لا تخشى "إسرائيل" ما يمكن أن تفعله الأمم المتحدة أو شركات النفط في حال أرسل لبنان إليها مرسوماً بحدوده الجديدة، لكنها تخشى التزام "حزب الله" بالدفاع عن الحدود اللبنانية البحرية والبرية، كما تحددها الدولة اللبنانية، وهو ما يمكن أن يخيف شركات النفط أيضاً.
هكذا، قال هيل كلاماً واضحاً بأنَّ توقيع لبنان على المرسوم 6433 وإرساله إلى الأمم المتحدة يمكن أن يقابله تعديل الحكومة الإسرائيلية لحدودها، بحيث تضم مدينة صيدا وتوقعها وترسلها إلى الأمم المتحدة. حينها، لا حاجة للمفاوضات، فإما تتدخل الأمم المتحدة وإما تكون الحرب. المفاوضات وجدت لتحديد هذه الحدود، و"علينا أن نستأنفها" من مكان ما.
هل بالإمكان في هذه الحالة العودة إلى اتفاق الإطار؟ سأل أحد الحاضرين في أحد اللقاءات، فهز هيل رأسه موافقاً، ثم طرح في أكثر من لقاء الانطلاق من الحدود اللبنانية، كما أرسلها لبنان إلى الأمم المتحدة في العام 2011، قبل أن يتطور طرح الخبراء الدوليين في البحث مع رئيس الجمهورية.
وصف هيل دائماً بأنّه واحد من أكثر الدبلوماسيين الأميركيين لياقة. علاقة عون به تختلف عن علاقته بمن سبقه وتبعه من دبلوماسيين أميركيين. الديمقراطي وسط الجمهوريين كان يظهر الاحترام اللازم لرئيس الجمهورية، والرئيس يبادله الاحترام. هذا الأمر أساسي في ظل الثقة المفقودة بين الطرفين. تطوَّر طرح الخبراء كمخرج للأفرقاء اللبنانيين من جهة، وطرفي التفاوض من جهة أخرى، مع تأكيد فريق رئيس الجمهورية هنا أنَّ خارطة الخط 29 تعزز موقع لبنان التفاوضي، وهي ضرورية لانتزاع أكبر حجم ممكن من المكاسب اللبنانية. هذا شيء والقول إن هذه حدودنا النهائية التي لا يمكن أن نفاوض عليها شيء آخر.
هنا، برز أكثر من تناغم أو تفاهم بين الرئاسة الأولى (والثانية والثالثة) والموفد الأميركي، مع تأكيد رئيس الجمهورية لضيفه أن مصلحة لبنان تقتضي حل أزمة الحدود البحرية، لنزع الذرائع ومواصلة الائتلاف المعني بالتنقيب عن الغاز في المياه اللبنانية عمله. هذا الأمر يمثل هماً رئيسياً بالنسبة إلى عون، وخريطة الطريق الوحيدة للخروج من نفق الانهيار الطويل. البعض يعوّل على الاستدانة. هو يعوّل على النفط. كان النفط البند الأول في أول جلسة تنفيذية في عهده. موضوع العقوبات على باسيل صار وراء كلٍ من عون وباسيل. ما يعنيهم اليوم هو إنقاذ الوضع الاقتصادي لإنقاذ ما يمكنه إنقاذه، وهو أمر شبه مستحيل من دون النفط. لذلك، هناك من يريد عرقلة مسار استخراج النفط عبر تطيير المفاوضات.
في النتيجة، هل هناك موعد قريب لتجدد المفاوضات؟ الإسرائيليّ "محروق"، يقول أحد الذين التقوا هيل مطولاً، والأخير "محروق" أيضاً. يريد الاطمئنان إلى انتزاع التكليف ليحقق إنجازاً سريعاً يسمح له باستعادة ثقة الإدارة الجديدة لترقيته بدلاً من وضعه على الرفِّ في ملف منسيٍّ ما.
خلاصة زيارة دايفيد هيل للبنان: لا مجتمع مدنياً يُعول عليه أميركياً. لا طرح حياد ولا مؤتمر دولياً يعول عليه أميركياً. لا يوجد هجوم فوق العادة على "حزب الله". لا توجد مقاطعة للمؤسسات اللبنانية الرسمية المنتخبة، ولا رفع للغطاء عن حلفاء واشنطن الفاسدين الذين يعوقون التدقيق الجنائي والإصلاح والمحاسبة. لا أحادية حريرية لدى الطائفة السنية. لا حديث أميركياً من قريب أو بعيد عن الانتخابات النيابية المبكرة أو غيرها من المغامرات الكتائبية، ولا يوجد بند آخر سوى بند ترسيم الحدود الذي يمسك ميشال عون بمفاتيحه، بالتنسيق مع الرئيس بري و"حزب الله".