الاتفاقيَّة الصينيّة - الإيرانيّة والتحوّلات في المفاهيم
طهران وقّعت عملياً على خاتمة العقوبات الأميركية والغربية، حين بدأ الحديث عن استثمارات تزيد على 400 مليار دولار في المشروعات الإيرانية.
إنَّ اتفاقيّة التعاون الشامل بين إيران والصين تتخطّى فكرة أنَّ دولة مثل إيران تتعرَّض لحصار جائر، وتستعين بدولة كبرى لمساعدتها في كسره، كما أنَّ الاتفاقية أكبر بكثير من كونها شهادة حسن سلوك وتتويجاً لنصف قرن من العلاقات الدبلوماسية بين بكين وطهران.
ترقى الاتفاقية في بعض جوانبها إلى مستوى المعاهدة في أبعادها السياسية، لجهة تأمين المصالح الصينيّة وجلب التّنين الصيني إلى سواحل الخليج وبحر العرب والمحيط الهندي لمواجهة الحمار والفيل الأميركيين.
تشمل الاتفاقيَّة توظيف الشركات الصينية في تطوير قطاع النقل بمختلف مساراته. يبدأ المشروع الاستراتيجي بتطوير ميناء تشابهار في أقصى الجنوب الشرقي من إيران، وتحويله إلى ميناء عالمي يضاهي موانئ دبي ونيويورك وسان فرانسيسكو. وفي خطوة لاحقة، ستعمل الصين على تطوير ميناء بندر عباس في جنوب إيران، وربط الميناءين بشبكة من الطرق السريعة وسكك الحديد مع أقصى شمال البلاد، بطول يزيد على 1800 كم.
يقع بندر عباس وتشابهار على مسار الحزام الجنوبي الممتد من شنغهاي إلى جنوب أفريقيا، والفكرة الصينيّة – الإيرانية تقوم على أساس ربط هذا الحزام الناقل في الجنوب بأقصى الشمال، واندماجه بطريق الحرير الممتد من شمال غرب الصين، مرورواً بباكستان وجندب القوقاز، على أن يؤدي إلى شرق أوروبا عبر تركيا.
في قطاع الصناعات البتروليَّة، ستكون الصين بمأمن من أية عواصف اقتصادية وعقوبات بعد أن ضمنت استمرار تدفق الصادرات النفطية الإيرانية إليها لربع قرن. في المقابل، ستباشر الصين بتطوير الصناعة البترولية في إيران المنهكة بسبب العقوبات المستمرة منذ عشرات السنين.
والأهم في الجانب الاقتصادي من الاتفاقية، هو ما ورد في البند الأخير من إشارة إلى أن إيران ستنضم إلى النظام المالي الدولي الذي تعمل الصين على إنشائه، بعيداً من المنظومة المالية الغربية التي تمثل العصا الضاربة لكلّ من ينتهك العقوبات المفروضة على الدول المناهضة للسياسات الأميركية.
وإضافة إلى النقلة الكبيرة التي ستحدثها التكنولوجيا الصينية في قطاع المعلومات والتقنيات السايبيرية في إيران بإدخال تكنولوجيا الجيل الخامس، تضمّنت الاتفاقية إعلان كلا البلدين عزمهما على التعاون في المجالات الدفاعية والأمنية على المستويين الإقليمي والدولي، ولا سيما ما يتعلّق بمحاربة الإرهاب.
إيران وعقدة الربط الآسيوية الأوروبية
نصَّت الاتفاقية على أنَّ إيران ستشارك في توسيع إطار "الحزام والطريق" على المستوى الإقليمي، أي أنها لن تكون مجرد دولة من بين عشرات الدول التي تقع على مسار "الحزام والطريق"، فهي ستكون محطة أساسية في هذا النهج الاقتصادي العالمي، وستكون من المساهمين في إعادة بناء الاقتصاد الدولي الذي أنهكته جائحة كورونا، وذلك عبر تقليص المسافة من منشأ الصادرات الصينية إلى المقصد في أوروبا وعبر البحر المتوسط.
بمعنى آخر، إنّ موقع إيران الجغرافي يمثل العصب الرئيسي في مسار "الحزام والطريق"، فهي ستكون حلقة الوصل مع مشروعين تطمح إليهما الصين التي تجري مباحثات معمقة مع كل من العراق والكويت لإنشاء القناة الجافة التي ستصل رأس الخليج، بدءاً من ميناءي الفاو ومبارك، بسواحل بانياس السورية وطرابلس اللبنانية.
الموقف الأميركي من الاتفاقية الصينيّة - الإيرانيّة
إنّ الاتصال الهاتفي بين الرئيس الأميركي جو بايدن ورئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون واتفاقهما على مواجهة المشروع الصيني، إنما ينطوي على إدراك المنظومة الغربية بأن الصين اتخذت "خطوة عدائية"، وأن بكين صارت تستهدف العقيدة الاقتصادية الغربية ومسرح المصالح الغربية في منطقة غرب آسيا.
في ما يبدو أن الديمقراطيين يسعون إلى تبريد الجبهات التي ورثوها من سلفهم ترامب، لا يبدو أنهم في موقع الرد على إيران التي "انتهكت" حزمة كبيرة من الخطوط الحمراء من وجهة النظر الأميركية.
في الواقع، إن إيران التي وقّعت الاتفاقية مع الصين إنما وقّعت عملياً على خاتمة العقوبات الأميركية والغربية، حين بدأ الحديث عن استثمارات تزيد على 400 مليار دولار في المشروعات الإيرانية، فالجمهورية التي أُريد لها أن تُحشر في زاوية حلبة الملاكمة بعد توقيع الاتفاق النووي، وأن تُوجَّه الضربات إليها كلَّما حاولت الخروج منها، تمكّنت الآن بالفعل من الإفلات، وعادت إلى الميدان، وهي تستعدّ لجولة جديدة من الصراع.
اقتصاد الدولة يتحدّى الاقتصاد الليبرالي الإمبريالي
إن نجاح التحالف الصيني الإيراني، وفي الخلفية روسيا، سيسفر عنه إنتاج نظرية مختلفة في إدارة الاقتصاد العالمي، لأن نجاح جمهورية الصين الشعبية في مشروع "الحزام والطريق"، يعني نجاح اقتصاد الدولة وهزيمة الاقتصاد الليبرالي، وهو ما حذّر منه المنظّر الأميركي هنري كيسنجر مؤخراً.
لذلك، إن نجاح اقتصاد الدولة وتفوّقه في قيادة مجموعة اقتصادية تضم عشرات الدول هو في الحقيقة نسف لعقيدة قامت عليها المؤسسة الإمبريالية الغربية التي شنّت حربين عالمتين إلى جانب 50 حرباً وعدواناً خلال الأعوام المئة الماضية، وذلك دفاعاً عن فكرتها التي وضعت رؤيتها السياسية والثقافية لقيادة العالم بموجبها.
وفقاً لهذا المتغيّر القيمي والفكريّ، ستكون الولايات المتحدة قريباً في مواجهة حقيقة قاسية وحالات تمرّد من دول مثل العراق والكويت وتركيا، متحالفة سياسياً مع المعسكر الأميركي، حين تجد أنَّ ازدهارها يقوم على أساس التكامل مع مسار "الحزام والطريق".
تبعاً لذلك، أعتقد أن الكثير من مفاهيم الأمن الاستراتيجي للغرب سيتغير بالكامل، من قبيل أمن الخليج وأمن المضائق وتأمين مصادر الطّاقة، بعد أن وصل التنين الصيني إلى سواحل الخليج، لتحلّ محله رؤى العمل الجماعيّ، وسيصبح التوجّه شرقاً حاجة مادية وروحية، بعد أن امتلك الشرق التكنولوجيا إلى جانب القيم المعنوية والحضارية.