الحبر الأعظم في العراق.. أيّ رسائل سياسيّة لمسيحيي المشرق؟
على الرغم من رسالة السلام والتسامح والمحبة التي يريد بثّها في المنطقة، فإنَّ الدّلائل الوجدانية لزيارته لا تنفي أن لها جوانب سياسية مهمة.
يحلّ البابا ضيفاً على العراق، في رسالة سلام ومحبة يرسلها إلى المنطقة بأكملها، بمسيحييها ومسلميها، وفي لفتة إنسانية وجدانية يخصّ بها مسيحيي العراق الذين تعرضوا لأبشع أنواع التنكيل والتهجير، وخصوصاً بعد غزوة "داعش" في العام 2014.
وعلى الرغم من رسالة السلام والتسامح والمحبة التي يريد بثّها في المنطقة، فإنَّ الدّلائل الوجدانية لزيارته لا تنفي أن لها جوانب سياسية مهمة، إذ يدرك البابا أن مسيحيي المشرق يتعرضون لمؤامرة كونية تهدف إلى اقتلاعهم من أرضهم وتهجيرهم، في وقت تتراوح مواقف الدول الغربية بين التساهل والتواطؤ وغضّ النظر.
لا شكّ في أن المجازر التي ارتكبها "داعش" بحقّ المسيحيين وباقي الأقليات العراقية ساهمت في تقلّص أعداد المسيحيين وهجرتهم، إلا أنَّ هجرة العراقيين المسيحيين تمّت على مراحل، على الشكل التالي:
1- مرحلة التسعينيات: الحصار الدولي على العراق
في تلك الفترة، هاجر المسيحيون، كما فعل معظم العراقيين، بفعل تأثير الأزمات الاقتصادية والاجتماعية الكارثية التي سبّبتها عقوبات الأمم المتحدة على العراق ضمن سياسة "النفط مقابل الغذاء".
2- مرحلة الاحتلال الأميركي للعراق (2003) ولغاية العام 2014
خلال هذه الفترة، حصل تهجير ممنهج بوتيرة بطيئة، واستُنزف الوجود المسيحي في العراق، وسط صمت عراقي وعربي ودولي مشبوه. تمّ تهجير المسيحيين في هذه المرحلة عبر مزيج من الترهيب والترغيب، فمع تعرّض الكنائس والأفراد لعمليات إرهابية وعمليات قتل ممنهجة، عمد الغرب إلى تقديم إغراءات لمسيحيي العراق للهجرة، وتضاءل عددهم في هذه الفترة الزمنية بنسبة 83%، من حوالى 1.5 مليون قبل الاحتلال إلى 250 ألفاً فحسب قبل غزوة "داعش" في العام 2014.
المؤسف في مرحلة تهجير العراقيين المسيحيين الثانية أنَّ ثمة أطرافاً ساهموا في تلك المأساة، فالحكومات الغربية فتحت أبواب قنصليّاتها وسفاراتها لمنحهم تأشيرات الهجرة، وبعض المرجعيات المسيحية المشرقية، وخصوصاً اللبنانية، ساهم في جعل لبنان مقراً مؤقتاً يستجلب المسيحيين العراقيين إليه، تمهيداً لهجرتهم الدائمة إلى الغرب، في تواطؤ صريح وواضح و"مقبوض الثمن" لتهجير المسيحيين من المشرق.
ويشير العديد من التقارير إلى أنَّ المؤامرة على الوجود المسيحي في العراق كانت مشتركة، فالبعض يشير إلى أنّ الكرد طمعوا بهجرة الاستثمارات المسيحية إلى أراضيهم، والغرب اعتبرهم "مجرد أضرار جانبية" في الحرب على الإرهاب، والشيعة والسُّنة الراديكاليين مارسوا عليهم إرهابهم، بسبب اعتبارات عراقية محضة، فبعض المجموعات الشيعية اتهمتهم بأنهم كانوا من الأقليات المحظوظة في عهد صدام حسين. أما السُّنة الراديكاليون، فقد اعتبروا أن المسيحيين "جزء من الحملة الغربية والأميركية" على العراق بسبب الدين.
3- مرحلة ما بعد غزوة "داعش" في العام 2014
في هذه المرحلة، لم يعد قتل المسيحيين يتمّ بصمت، بل بات قتلاً مدوياً تُسمع أصداؤه في أرجاء المعمورة. لقد تمَّ قتلهم وسبي نسائهم واحتلال أرزاقهم، كما حصل مع الأيزيديين وباقي العراقيين. لقد أدى هجوم "داعش" في العام 2014 إلى نزوح أكثر من 125 ألف مسيحي من أرض أجدادهم التاريخية، بحسب رئيس أساقفة أربيل المطران بشار متى وردة. والمؤسف أن العالم لم يتحرك لنصرة الأقليات العراقية، إلا بعد أن كان "داعش" قد استولى على محافظات عراقية وطرد أهلها منها ونكّل بهم.
هكذا، تأتي زيارة البابا اليوم - ولو متأخّرة - لتؤكد رفض تهجير المسيحيين من المشرق، فالمسيحي جزء لا يتجزأ من المحيط، وعليه أن يكرّس وجوده في بلاده، وينفتح على المكونات الأخرى، فهو "ملح الأرض"، وتجمعه بها وحدة المصير المشترك وصناعة المستقبل سوياً.
أما بالنسبة إلى الرسائل السياسية التي تثيرها زيارة البابا، فالمطلوب من المسيحيين العراقيين، ومن المسيحيين المشرقيين أيضاً، أن يدركوا أهمية هذه الزيارة ومضامينها، فيهبّوا للدفاع عن نفسهم ووطنهم، وينخرطوا في الدفاع عن قضايا الوطن المحقة، فالحياد المسيحي في قضايا الأمة والوطن لم يجنّبهم القتل والاجتثاث والتنكيل سابقاً، ولن يجنّبهم ذلك في المستقبل، وسط صمت العالم وتفرجه على مصير أسود يلفّ الجميع معاً، مسيحيين ومسلمين.
ما نفهمه من زيارة البابا للعراق في وقت يعيش المشرق أسوأ أيامه وأصعبها، أنَّ المطلوب من مسيحيي المشرق وقفة جرأة استثنائيّة، تتطلَّب منهم الدفاع عن مصيرهم ووجودهم وأرضهم والعيش فيها بكرامة. وإن فُرض عليهم الموت، فليموتوا واقفين وهم يدافعون عن كرامتهم ووجودهم، بدلاً من أن يموتوا منحوري الرقاب أذلاء. يبقى الموت واحداً، وعليهم أن يختاروا.