الإرهاب الفكري: "ثورة 17 تشرين" في لبنان نموذجاً
مع استخدام النعوت البذيئة والتحقيرية بهدف منع كل لبناني من المجاهرة برأي مخالف، على قاعدة "أو تكون مثلنا تماماً أو لا يحق لك أن تكون"، تقلّص شعار "كلن يعني كلن"، واستمر بالتراجع والاستثناءات.
يعاني لبنان أزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية منذ ما قبل "الثورة" في 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019. وما تزال هذه الأزمات مستمرة لغاية اليوم، وسببها الفساد المستشري والسياسات الاقتصادية الريعية والنهب المنظّم للخزينة العامة. وقد ازدادت حدّتها بعد أزمتي كورونا ووقوع لبنان تحت تأثير سياسة "الضغوط القصوى" التي مارسها الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
وعلى الرغم من بشائر الأمل التي حملتها الثورة، فقد كان أخطر ما رافقها هو الترهيب الفكري الذي مورس في الإعلام وفي وسائل التواصل الاجتماعي من قبل "نخب" تقود عملية تحفيز الجماهير و"غوغاء" للهجوم على أي مخالف للرأي لإسكاته.
وإذا كان لا بد من تفنيد هذه الظاهرة بسبب أهميتها، فإننا نرصد ما يلي:
أولاً - في التعريف
بداية، وكما في حالة الإرهاب بشكل عام، يختلف الباحثون في تعريف ظاهرة الإرهاب الفكري، ويشير العديد منهم إلى أنه يقوم على مبدأ محاولة فرض فكرة أو إيديولوجيا معينة، وعدم قبول أي رأي مخالف لها، والاعتقاد بعدم وجوب ظهوره بالأساس، ومصادرة حرية الآخر المختلف في الرأي والتعبير.
ويعتقد الكثير من الباحثين أن الإرهاب الفكري أخطر من الإرهاب العسكري الذي تمّت إدانته في العالم ومكافحته، لاستخدامه وسائل غير مرئية معظم الأحيان، علماً أنهما ينطلقان من منطلق واحد (امتلاك إطلاقية الحقيقة)، ولو اختلفت أساليبهما، فالإرهابي التكفيري يعتقد أنه يملك الحقيقة المطلقة، وأن لا حقيقة سواها، وبالتالي إن قتل أي فكرة معارضة أو مخالفة هي حق مشروع باسم إطلاقية الحقيقة التي يملكها.
تاريخياً، عرف العالم الإرهاب الفكري خلال فترات متعددة، وخصوصاً خلال قرون الظلام الأوروبية، حين انتشرت محاكم التفتيش وساد التكفير والقتل والاتهامات الجاهزة بالهرطقة ضد كل مخالف لرأي الكنيسة. ومع الثورة الفرنسية، ترافق الإرهاب والقتل مع موجة من الإرهاب الفكري بحجة الحفاظ على قيم الثورة ونقاوتها.
أما اليوم، ومع انتشار وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي وشهرتها، فيمكن تعريف الإرهاب الفكري بأنه محاولة لإقصاء "الآخر المختلف في الرأي"، ومنعه من التعبير بحرية عن رأيه وأفكاره، عن طريق ممارسة الضغط الشعبي عليه وترهيبه، عبر إطلاق "موجة مبرمجة" لترهيبه عبر شيطنته، وإفلات مجموعة من "الغوغاء" والحسابات الوهمية للهجوم عليه وشتمه وتحقيره، من أجل إخافته وإسكاته.
ثانياً - الظاهرة في لبنان
واقعياً، هي ليست المرة الأولى التي يحصل فيها ترهيب فكري إعلامي وسياسي في لبنان، فقد شهدنا موجة مماثلة بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، حين استعمل تيار المستقبل وقوى 14 آذار عموماً الترهيب الفكري ضد الآخرين، واصفين كل معارض لهم أو مختلف بالرأي بأنه "صنيعة للنظام الأمني السوري اللبناني" أو موالٍ له.. ولم يكتفِ تيار المستقبل بذلك، بل أدرج ضمن حملته الانتخابية في العام 2005 في عكار، شمال البلاد، والتي تلت عملية الاغتيال بأشهر، شعاراً مثيراً بعنوان "كل من ينتخب اللوائح المنافسة، فهو ينتخب قتلة الحريري!".
ولا شكّ في أن "ثورة 17 تشرين" في لبنان اقتبست معظم أساليب "الثورات الملونة" في العالم، والتي تعتمد استراتيجيات إعلامية وإعلانية شعبوية، لتحقيق التغيير السياسي المنشود عبر:
- السيطرة عبر عملية ممولة لقيادة الوعي السياسي والاجتماعي وتغييره، ليأخذ منحى جديداً يختلف عن المنحى السائد سابقاً، وذلك عبر اعتماد تقنيات إعلامية وإعلانية حديثة لتقويض ثقة الشعب بمؤسساته، لا السياسية فحسب، بل والاجتماعية والأمنية (الجيش) أيضاً.
- التمكين، وهو ما سماه غرامشي "الهيمنة الثقافية"، أي تقويض كل القيم التقليدية السائدة، سواء الأخلاقية أو الثقافية أو الدينية أو الاجتماعية أو السياسية... لخلق إطار بديل منها يسوّق للأفكار "الثورية" الجديدة وترسيخها في الوعي الاجتماعي والثقافي.
ويعتبر غرامشي أن الهيمنة الثقافية ضرورية من أجل نجاح أية سلطة، فلا يكفي للطبقة الجديدة التي تستلم الحكم أن تسيطر بالسياسة والعسكر والاقتصاد، بل عليها أن تخلق طبقتها الخاصة من المثقفين والفنانين والأدباء ورجال الدين لتكريس تلك السيطرة وترسيخها، وهو ما نلاحظه في جميع الثورات الشعبوية في العالم.
وهكذا، نجد أن "ثورة 17 تشرين" في لبنان، وعلى الرغم من أنها لم تستطع أن تسيطر على السلطة وتشكّل إطاراً سياسياً بديلاً من الطبقة السياسية الحاكمة، فإنها استمرت في استخدام أسلوب الثورات الأخرى نفسه، أي الترهيب الفكري وشيطنة كل معارض للرأي وتخوينه. ونذكر على سبيل المثال لا الحصر، إطلاق صفات "الغنم والعبيد" على كل مواطن مناصر للأحزاب، ثم اتهام مناصري الأحزاب بدعم "القتلة" بعد انفجار المرفأ في 4 آب/أغسطس...
ومع استخدام النعوت البذيئة والتحقيرية بهدف منع كل لبناني من المجاهرة برأي مخالف، على قاعدة "أو تكون مثلنا تماماً أو لا يحق لك أن تكون"، تقلّص شعار "كلن يعني كلن"، واستمر بالتراجع والاستثناءات، حتى باتت الغالبية العظمى من "النخب" المنوطة بمهمة القيادة الفكرية للثورة تركّز على طرفين وحيدين هما التيار الوطني الحر وحزب الله لشيطنتهما، علماً أن هذا الانحراف ليس الانحراف الوحيد الذي وقعت فيه "ثورة 17 تشرين"، خلافاً لكل المعايير المعتمدة لنجاح الثورات الملونة في العالم، فمن أبرز عوامل النجاح في تلك الثورات القدرة على الحصول على أوسع تأييد ممكن من شرائح المجتمع كافة، وهو ما لم تتقنه "نخب الثورة".
الخطأ الذي وقعت فيه "نخب الثورة" في لبنان مؤخراً، والذي يتناقض مع "وصفات الثورات الملونة"، هو العنصرية ضد فئة شعبية واسعة من المواطنين اللبنانيين، فقد تحوّل "الخطاب الثوري" بعد مقتل لقمان سليم من شيطنة الأحزاب السياسية إلى شيطنة بيئة وطائفة بكاملها، عبر تقسيم عنصري للشيعة في لبنان: "الشيعة المثقفون (جماعتنا) والشيعة المتخلفون (من هم ضدنا)".
في كل الأحوال، هي ليست معركة جديدة مع الإرهاب الفكري والعنصرية، فمنذ القرون الوسطى ولغاية اليوم، عانت الكثير من الفئات المجتمعية المآسي والظلم والترهيب والتنميط الثقافي، كما عاشت معاناة من أجل كسر ثقافة الإلغاء ضمن تنميط عنصري عنوانه "نحن الأخيار وهم الأشرار"، أو كما يقول سارتر: "الآخرون هم الجحيم".