بين الماضي والراهن.. أميركا وصراعها مع الصين الناهضة
لمعرفة هذا الصراع علينا أولاً أن نلقي نظرة بسيطة في التاريخ الحديث لنجيب عن سؤالين، ماذا كانت الولايات المتحدة تفعل وأين كانت في ظل نهوض الصين؟ هل تمتلك الولايات المتحدة أي استراتيجية واضحة لمواجهة هذا التحدي؟
سيتمثّل التحدي الجيوسياسي الأعظم في القرن الحادي والعشرين بكيفية استجابة الولايات المتحدة وبقية العالم لنهوض الصين، التي تعد الآن، وفقاً لبعض المقاييس، القوة الاقتصادية العالمية المهيمنة، وهي تقوم باستخدام تلك الثروة كقوة تعبوية لمتابعة رؤيتها الخاصة للنظام الدولي.
ستكون المنافسة المركزية لهذا القرن إذاً بين النموذجين الأميركي والصيني للتنمية السياسية والاقتصادية. وفي ما لو فازت الصين ورؤاها، يقول معظم صناع السياسات والقرار في أميركا بأن ثمة خطراً يتمثل في أن بلادهم ودول العالم ستكون "أقل ازدهاراً وأماناً". ويحاجج آخرون - معظمهم من خارج الولايات المتحدة - بأنَّها بغنى عن الانخراط في حرب باردة - أو ساخنة - مدمّرة مع الصين، بل هي تحتاج أولاً، وقبل كلّ شيء، إلى وضع مخاوفها جانباً وجلب الفكر الدينامي الّذي تميزت به إلى الساحة الدولية، والدعوة إلى رؤاها ومناقشتها والدفاع عنها، لتعيد تأكيد صدارتها العالمية بجدارة واستحقاق، وتصحيح نمط التعثر الخطير الذي انتهجته في سياساتها الداخلية والخارجية على حد سواء.
لمعرفة هذا الصراع أو التحدي أو النزاع، مع اختلاف التسميات، علينا أولاً أن نلقي نظرة بسيطة على التاريخ الحديث، لنجيب عن سؤالين: ماذا كانت الولايات المتحدة تفعل؟ وأين كانت في ظل نهوض الصين؟ هل تمتلك الولايات المتحدة أي استراتيجية واضحة لمواجهة هذا التحدي؟ ما هي خياراتها وأطر عملها؟ أسئلة كهذه من شأنها، إذا ما تمت الإجابة عنها بشكل واضح طبعاً، أن تشكل نقطة انطلاق ومشروعاً مدروساً لتفادي الانزلاق إلى حرب انفعالية غير مبررة قد تؤثر بلا شك في 7 مليارات نسمة تعيش في هذا الكوكب المحترّ.
السؤال الأول: أين كانت الولايات المتحدة في ظل نهوض الصين؟
حصل الالتقاء الأول للولايات المتحدة مع الصين في السبعينيات. كانت الصين حينئذ فقيرة ومعزولة وغير قادرة على إظهار أي قوة عسكرية خارج محيطها. توقعت واشنطن حينها أن تزداد قوة الصين مع مرور الوقت، وافترضت أن أفضل طريقة لتعزيز مصالحها تكمن في دمجها مع النظام الدولي، وخلق حوافز لها للارتقاء داخل هذا النظام والالتزام بقواعده - التي انسحبت منها أميركا مؤخراً - بدلاً من العمل خارجها.
قامت واشنطن بربط نهج "الباب المفتوح" هذا بهيكل أمني معزّز ومصمّم لردع الصين عن استخدام قوتها العسكرية المتنامية ضد حلفاء الولايات المتحدة والمصالح الأمنية في آسيا. وصلت استراتيجية "المشاركة والإحاطة" إلى ذروتها في العام 2001، عندما رعت الولايات المتحدة انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية. وعلى مدى العقد التالي، بدأت التحولات السياسية الرئيسية في الصين والولايات المتحدة بإرساء الحجر الأساس للتحدي الصيني الذي تواجهه الولايات المتحدة اليوم.
بعد وقت قصير من انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية، بدأت بيجينغ بإعادة تقييم المسار الاقتصادي للأمة، وأفادت إصلاحات السوق الجزئية في الصين بعض مجموعات المصالح أكثر من غيرها. ومع حلول العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بدأ القادة الصينيون ينتبَّهون إلى أن نموذج التنمية الصيني - الذي يعتمد أساساً على التصنيع ذي القيمة المضافة المنخفضة والاستثمار في البنية التحتية الثقيلة - سيواجه الركود قريباً. لذا، كانت الطريقة الوحيدة للاستمرار في النمو هي التحوّل إلى إنتاج ذي قيمة مضافة أعلى.
في كثير من القطاعات الإنتاجية مثلاً، كان على الشركات الصينية الاعتماد على التقنيات الأساسية من الشركات الأجنبية المستثمرة، وعلى أصحاب براءات الاختراع الأجانب فيها. أرادت بيجينغ من الشركات الصينية تطوير معاييرها الصناعية والإنتاجية الخاصة بها، حتى تتمكّن من التحول من دفع رسوم بدل الملكية إلى استلامها، لكن تطوير اقتصاد المعرفة على أساس النموذج الغربي مع وصول واسع إلى المعلومات ونظام قضائي قوي لإنفاذ الملكية الفكرية وتمويل يحركه الربح سيتطلّب من بيجينغ التخلي عن المزيد من السيطرة على اقتصاد الدولة والمجتمع. وبدلاً من المخاطرة، قررت بيجينغ اتباع مسار مختلف: إعادة تأكيد سيطرة الدولة على القطاعات الرئيسية للاقتصاد، واستخدام تلك الضوابط لإعادة هيكلة الأسواق العالمية بطرق من شأنها أن تفيد الصين على حساب شركائها التجاريين.
دارت عجلة الاقتصاد الصيني إلى حد رفض الصفقة التي اعتقدت واشنطن بأنها أبرمتها مع بيجينغ حين أدخلتها إلى منظمة التجارة العالمية. أدركت الولايات المتحدة أنّ الترحيب باقتصاد نام ضخم في نظام التجارة العالمي سيؤدي حتماً إلى ميل كفة الوظائف في قطاع الصناعة من جهة الولايات المتحدة إلى جهة الصين. ورغم ذلك، توقعت واشنطن أنها مع تطور الصين ستكسب فرصاً جديدة لتصدير منتجات ذات قيمة مضافة أعلى للمستهلكين الصينيين، ما سيؤدي إلى موازنة الخسائر الابتدائية على المدى البعيد.
لكن ما قررت بيجينغ فعله في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين هو الإمساك بعصا الصفقة من طرفيها: استخدام التحول التصنيعي المبكر للوصول إلى التكنولوجيا الأميركية، ثم استخدام التمويل الحكومي والسياسات التنظيمية التفضيلية لمساعدة الشركات الصينية في تطوير إصدارات محلية خاصة بها من المنتجات الأميركية العالية الجودة. وبمجرد أن اكتشفت الشركات الصينية كيفية استنساخ و"تقليد" ما كان ينتجه شركاؤها الأجانب، قامت بيجينغ بعد ذلك بتقديم إعانات مالية لها لمساعدتها على بيع المنتجات بتكاليف أقل من السوق، ما أدى إلى توقف الشركات الأميركية والأجنبية الأصلية عن العمل. كان هذا النمط سائداً بشكل خاص في "الصناعات الاستراتيجية الناشئة"، إذ إن التغلب على الفجوة بين الصين والدول المتقدمة، من وجهة نظر بيجينغ، لم يكن أمراً مستحيلاً.
أما بالنسبة إلى الولايات المتحدة، وعلى جبهة سياساتها الخارجية والدبلوماسية، فبالمرور ببعض المحطات التاريخية، بإمكاننا أن نعرف أين كانت. لطالما كانت منشغلة. وفي معظم الأحيان، كانت تقود حروباً خارج حدودها، قبل الحرب العالمية الثانية وبعدها، مروراً بالحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي، ثم حرب الخليج وحرب كوسوفو وغيرها من الحروب المستمرة، كتلك التي شنّتها على أفغانستان والعراق وسوريا واليمن وليبيا.
وبين تلك الحروب، كانت تتبختر مفتخرة بنموذجها المفترض عن الحكم الرشيد وبأسواقها الحرة وريادة الأعمال، فعبر حروبها المباشرة أو بالوكالة، قامت الولايات المتحدة بصرف إمكانياتها وجهودها على تدخلات وحروب ومناوشات لا طائل منها، وشوهت صورة نموذجها الذي لطالما سعت إلى تعميمه على غيرها من الشعوب والدول، متجاهلة الحروب الطبقية ومشاكلها الاقتصادية الداخلية التي باتت اليوم تظهر على شاشاتها وعلى ألسن مفكريها ومنظريها وحكامها، وهو ما أمعن ترامب في فعله خلال فترة رئاسته، إذ نفّر معظم حلفاء أميركا، وجعل اسمها يرتبط مباشرة - عن وجه حق - بالمتاعب والمشاكل بشكل لم يعد خفياً.
وفي ما يخصّ تأثير الحروب في موقع أميركا اقتصادياً واستراتيجياً، تقول راشيل إسبلين أوديل، الباحثة في برنامج شرق آسيا في معهد "كوينسي" للحكم الرشيد: "إن أحداث الحادي عشر من سبتمبر [وما تلاها] صرفت انتباه الولايات المتحدة عن نهوض الصين"، وتضيف: "الخطأ هو أننا حاولنا استخدام القوة العسكرية لجعل العالم ينصاع لمشيئتنا"، وكذلك قال البروفيسور كيشور محبوباني العالم السياسي والرئيس السابق لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة: "توقع بعض الاقتصاديين أن أميركا أهدرت 3 تريليونات دولار في ذلك الصراع [احتلال العراق]"، وأضاف: "...بإمكانك تخيل 3 تريليونات دولار يتم إنفاقها على الشعب الأميركي لتوفير الصحة والتعليم والوظائف بدلاً من خوض حرب غير ضرورية... كان الشعب الأميركي سيغدو أفضل حالاً اليوم".
على الجبهة الداخلية، عانت الولايات المتحدة جموداً اقتصادياً ضخماً، ولا سيما الركود العظيم في العام 2008. ولا شكَّ في أن هذا الركود طال الصين أيضاً، ولكن بيجينغ استخدمت مزيجاً من الإجراءات المرنة (عبارة عن ضوابط رأس مال معينة وحافز بقيمة 586 مليار دولار) لتجنّب الوقوع الكامل في الركود.
وهنا، يحاجج الكثير من المفكّرين حول العالم بأنَّ ذلك مؤشر على أنّ النموذج الاقتصادي الصيني الموجه من الحكومة المركزية في بيجينغ "السلطوية" أفضل من النموذج الغربي الليبرالي. كما أقنعت الأزمة الكثيرين في بيجينغ بأن ما يحصل في الولايات المتحدة هو بداية ضمورها حتماً، وبأن الوقت حان للصين للمضي قدماً في تأدية دور قيادي أكبر على الصعيد الدولي، وهذا ما أنفذه شي جينبينغ بعد تولّيه منصب القائد الأعلى للصين في العام 2013، إذ جعل توسيع نفوذ الصين العالمي أولوية قصوى لسياسته الخارجية.
إذاً، كانت الولايات المتحدة بطيئة في إدراك درجة التغيير الجارية في الصين. وثمة عوامل زادت الأمر ضبابية. أولاً، بدأت الصين تستفيد من قدراتها الجديدة لدعم الأهداف العالمية التي تشاركها معها الولايات المتحدة، مثل توحيد الجهود مع إدارة بوش ودول مجموعة العشرين الأخرى لمنع الانهيار الاقتصادي العالمي في العام 2008، ثم العمل مع إدارة أوباما لتأمين اتفاقية باريس للمناخ، وبعدها الاتفاق النووي الإيراني في العام 2015. وأنتجت تلك النجاحات أمثلة إيجابية عن الشراكة الأميركية الصينية الّتي أرست على المستوى الكلي شيئاً من التوازن مع بعض المخاوف المتزايدة في مجالات أخرى.
ثانياً، بالنسبة إلى الشركات الأميركية، كانت الصورة مختلطة ومحيّرة، إذ نمت الصادرات الأميركية إلى الصين بنسبة 86% بين العامين 2007 و2017، علماً بأنّ هذه الصادرات تؤمن مليون وظيفة أميركية، فصار الواقع كالتالي: في مقابل كلّ شركة أميركية متذمّرة من الممارسات الصينية السيئة، كانت ثمة شركة أخرى تصف الصين بأنها أرض الفرص الخصبة.
بيجينغ*: العاصمة الصينية بكين