عشر سنوات
أخرجتنا تونس من دائرة اللامبالاة والملل والاهتمامات الصغيرة. شعرنا بأننا جميعاً معنيون. تجاوزنا عقبة عدم اهتمامنا ببعضنا البعض كشعوب عربية.
هل مرَّت هذه السنوات العشر من عمرنا بسرعة أو ببطء؟ بماذا كنا نحلم يومها؟ وبماذا نحلم اليوم؟ هل درنا دورة كاملة حول الأرض والشمس وأنفسنا وعدنا إلى حيث كنا؟ هل نراوح مكاننا فعلاً؟ هل تراجعنا أو تقدَّمنا؟ دور المثقّف ونظرتنا إليه وعلاقتنا به، ودور الثائر ونظرتنا إليه وعلاقتنا به، ودور النظام ونظرتنا إليه وعلاقتنا به؛ جميعها شهدت خضات وتغيرات هائلة. ها هي مواقفنا تتناقض إلى حد الفضيحة مما يفترض أن نكون مبدئيين بشأنه.
كانت معرفتي بتركيبة الدولة في تونس كنظام وشعب سطحية جداً. ورغم ذلك، ما كان يمكن ضبط النفس أو عدم الهتاف مع الهاتفين: الشعب يريد (...) إسقاط النظام. دور الفضائيات ونظرتنا إليها وعلاقتنا بها كانت شيئاً في تلك الأيام، وهي شيء آخر اليوم طبعاً. حين كنت أتنقل بين العاصمة التونسية والمهدية والقيروان بعد ذلك بعام أو أكثر، كنت أشعر بأني أشارك هذا الشعب بما فعله.
أخرجتنا تونس من دائرة اللامبالاة والملل والاهتمامات الصغيرة. شعرنا بأننا جميعاً معنيون. تجاوزنا عقبة عدم اهتمامنا ببعضنا البعض كشعوب عربية. عدنا إلى الخارطة ندقّق في الحدود لنحاول أن نفهم. نقرأ عن الاتحادات والنقابات والأحزاب التي انطفأت قبل سنوات من ولادة جيلنا. تونس ثم مصر ثم الطوفان: خراب المفاهيم وتكسر الأحلام. حين كنت أنتقل من مركز محافظة تونسية إلى آخر، كان خيالي يسرح بين بساتين الزيتون من جهة والرعاة التونسيين مع قطعانهم من جهة أخرى. هذا الشعب هادئ جداً واستثنائي في احترامه لنفسه وللآخرين.
نسهر في مدينة المهدية مع الأحلام حتى طلوع الضوء، فننتقل على عجل إلى البحر لنراقب خروج الصيادين. للمهدية مقبرة لا تنافسها مقبرة في العالم من حيث الجمال، حيث تتصبّح شواهد القبور برذاذ البحر كلّ يوم. نعيش لحظة تتناقض مع مسارات حياتنا، ثم نجتاز الحدود التونسية - الليبية، فنعود إلى الواقع. يرمي علينا الجيش المصري سطل مياه باردة لنستيقظ. تضربنا سوريا بعصا غليظة لنستيقظ، فيما تحرّك السعودية أساطيلها البرية نحو البحرين واليمن، لتمنع الحرية وتحاول إنهاء ظاهرة "الشعب الذي يريد".
تحركت المملكة نحو مصر لدعم الجيش، ونحو سوريا لدعم الفصائل المسلحة ضد الجيش، ونحو ليبيا والبحرين واليمن بكامل العتاد الحربي المباشر، وهي الموجودة أساساً في لبنان والعراق. استنزاف لأحلامنا، وأطنان من التكفيريين المزنرين بالأحزمة الناسفة. مفكرون وإعلاميون وسياسيون ومدونون ونجوم افتراضيون يتقنون تكفير كل من يغالطهم أو يناقشهم أو يتحاور معهم. الحرية لا تحاور. الحرية لا تقترع. الحرية لا تؤمن بنتائج الانتخابات. انتخابات! اقتراع! حوار! "الشعب الذي يريد" لا يحاور، ولا يقترع، ولا يؤمن بانتخابات.
سلكت الطّريق نفسه من دمشق إلى درعا، مروراً بالسهول الحورانية. مرة في اليوم التالي لبداية الأزمة السورية، ومرة بعد خمس سنوات، وأقل ما يمكن قوله إن دمار الحجر سهل جداً مقارنة بكل ما لحق بالبشر من دمار. تلك النقاشات الثقافية الدينية والموسيقية والأدبية التي كانت تحتدم في مقاهي الشام والحارات القديمة، أصبحت مستحيلة.
تخيّلوا أن نستذكر بعيون تجهش بالبكاء سطح ذلك المنزل الكبير في محردة. تخيّلوا أن تصبح كل ذكرياتنا في كسب كأنها من عالم آخر ولّى إلى غير رجعة. كانت الحريات السياسيّة مقيّدة، وصارت حرية التنقل وحرية الإيمان وكل الحريات الأخرى مقيَّدة. وها هم مئات الآلاف يحملون ما يمكن حمله، وينطلقون بحثاً عن خيمة آمنة في مكان ما، بعيداً من أرضهم ورزقهم وماضيهم ومستقبلهم الحر المفترض. كانت السنوات العشر الماضية حافلة بالحروب والأسئلة المستفزة لنا وللآخرين، بامتحان يوميّ لإنسانيتنا، و(..) بخيم اللاجئين، وبوجوه الأطفال الذين لا يعرفون أين ولدوا أو لماذا!
التونسيون لا يقبلون أي نقاش في الموضوع. اليوم أفضل من الأمس، مهما كانت الصعوبات التي تواجههم بعد زين العابدين بن علي. غيرهم يناقش طبعاً. في البحرين واليمن وسوريا ومصر وليبيا، يبلغ النقاش حد الحرب. أساساً، نحن نفضل الحرب على النقاش. النقاش بالنسبة إلينا مشروع حرب. نقاشنا قتال. وفي النتيجة، هل تغيَّر شيء واحد إلى الأفضل أو لم يتغير؟ هل حقّقنا شيئاً أو أضعنا ما سبق لنا تحقيقه؟ الشام أمس والشام اليوم! حلب أمس وحلب اليوم! الطريق بين دمشق وحمص أمس والطريق بين دمشق وحمص اليوم؟ حمص أمس وحمص اليوم! أي منطق؟ أي مبدأ؟ أية أحلام؟
عشر سنوات من التدمير المنهجي المقصود، ومن التهجير المنهجي المقصود، ومن الإفقار المنهجيّ المقصود، وجميعها عن سابق تصور وتصميم. خاضت "مملكة الخير" بأموالها ألف معركة ومعركة لإنهاء "الشعب يريد"، وتسليح "السلمية"، ودهس "الحرية"، فأحبطت كثيرين، وأخمدت كثيرين، لكنَّ السنوات العشر تشكّل عمراً طويلاً في حياة البشر، فيما هي مجرد تفصيل في عمر الدول، ولا يمكن للحروب إلا أن تكون مرحلة انتقالية فقط.