خطاب السيد حسن.. سطوة المعنى
كانت القطعة الأدبية التي ختم بها السيد نصر الله خطابه مشبعة بالمعنى، ولسان حاله يقول: ادرسونا أكثر، اعرفوا عنا أكثر، فدوافعنا للقتال لا تشبه دوافعكم.
الحديث عن قوة محور المقاومة، واستعداده اللوجستي والعملي لبناء ترسانة الصواريخ والتطور العسكري، وتطوير نموذج الدبلوماسية الذكية والمنضبطة والحكيمة، وبناء الاقتصاد المقاوم لمواجهة أقسى أشكال العقوبات؛ كلّ ذلك بات واقعاً وجزءاً من الحياة اليومية التي يقرّ بها المشاهدون الموضوعيون، لا دائرة المناصرين والحلفاء والأصدقاء فحسب.
لم تكن الأرقام في خطاب السيد حسن البارحة هي مركز الحديث. إنه ببساطة خطاب متجاوز لحدود الكميات، سلاحاً أو مالاً أو أفراداً. إنه خطاب في الأبعاد التي لا تكمّم، خطاب في المعنى.
لا تقاس أهميّة حضور المقاومة في قدرتها العملية على ردع الكيان الصهيوني فقط، إنما تقاس أيضاً بأهمية الإبقاء على معنى القضية الفلسطينية نفسها إلى يومنا هذا؛ هذه القضية التي كانت في طريقها إلى غرفة الإنعاش أو إلى المتحف مع مسار التسويات منذ مدريد وأوسلو وما بعدهما.
لم تكن لكلّ الصيحات في الهيئات الدولية حول قضايا اللاجئين وحق العودة، والتمسك الخجول بقرارات الشرعية الدولية، والمطالبة ببناء دولة في مساحات متفسّخة، أن ترجّح أي كفّة في عالم السياسة من دون أن يرجّح أهل المعنى (محور المقاومة) كفتهم في الميدان والعمل والصبر والإيمان.
يستغرب الأميركي وخليج الأسرلة على حد سواء صيغ العلاقات غير المشروطة في الحياة، ويحدث ذلك في أدق التفاصيل اليومية (حتى في قصص الحب بالمناسبة). إن الحياة في نظره مكثفة في شيء (بضاعة ومال وبرميل نفط...). لذلك، يعجز عن فهم العلاقات غير المشروطة في السياسة، ولذلك أيضاً يستعصي عليه تفسير صورة غزة وجنوب لبنان إلا "خطوطاً أمامية".
أن تدعم إيران غزة كي تدافع عن نفسها، وأن تدعم جنوب لبنان كي يدافع عن نفسه، هو أمر خارج عن إطار العلاقات الزبائنية و"البضاعية". العلاقات الزبائنية تولد ذهناً لا يرى في اسم الشارع إلا إحداثيات في خرائط "غوغل" يمكن الوصول إليها بسهولة أثناء القيادة. في طهران، كما في غزة وجنوب لبنان، لا تعلق صور القادة على الجدران كي يراها الضيوف أو تقرباً إلى "البلاط"، وإنما لتبث المعنى في ساكن البيت نفسه كل صباح!
إنّ أحداث رحيل القادة في الولايات المتحدة، كما في الخليج، تعاني غياباً قاسياً للمعنى. لقد كان رحيل ريغان يوماً عادياً. استكملت بعده شوارع نيويورك صخبها المعتاد. ولم تعثر الكاميرا عند رحيل جورج بوش الأب على مشهد قابل للتداول إلا بكاء ابنه. يعتقد البعض أن بريجينيسكي ما زال حياً (ليس في ذلك أي حالة إنكار، ولكنه السهو فقط). وفي الخليج، يكون صراع الأخوة والأبناء خبراً طاغياً على الرحيل نفسه.
كل ذلك يختلف تماماً عن المعنى المكثّف في لحظة رحيل الشهيدين سليماني والمهندس، بدءاً من الجنازة، وليس انتهاء برصيد القوة والعناد الذي تولد في نفوس المتظاهرين وفاء لهما، و"تحويل الدم المسفوك ظلماً إلى دافع قوي للاستمرار، وللإحساس أكثر بالمسؤولية، وتحويل التهديدات إلى فرص".
كانت القطعة الأدبية التي ختم بها السيد حسن خطابه مشبعة بالمعنى، ولسان حاله يقول: ادرسونا أكثر، اعرفوا عنا أكثر، فدوافعنا للقتال لا تشبه دوافعكم، والمعنى في إيماننا أعمق من المغامرة التي يخوضها جنودكم ووكلاؤكم في سبيل المكافآت السريعة.
لقد تساءل الجنود الذين أرسلتهم قوات الحلفاء في الحرب العالمية الأولى عن معنى وجودهم في ساحات القتال، وكانت الحركة السوريالية أصدق من أجابهم: "يقولون لكم إنكم تقاتلون باسم الحضارة والشرف، ولكن في واقع الأمر، أنتم تقاتلون كي تشبعوا أطماع من سيحكمكم إن عدتم أحياء".
ليس غريباً أن يقول جندي سعودي لحظة وقوعه في الأسر في اليمن: "لم يكن هناك معنى لمجيئي إلى هنا". ارتعاشته في تلك اللحظة تدلّ على ذلك بوضوح. إن غياب المعنى هذا هو الذي دفع ضابطاً أميركياً إلى القول: "أتمنى أن أخوض حرباً واحدة في حياتي، ولكن أن يكون تحت إمرتي 200 عنصر من الفايتكونج الفيتنامي، وليس من الجيش الأميركي".
تسير المسألة في جنوب لبنان على سكّة مختلفة تماماً عن ذلك كله؛ على سكة: "لدينا الشعب والأرض والبحر والشمس والقمر والنجوم والمحيطات، ونشعر بأن أميركا محاصرة. ومن يؤمن بالله لا يشعر بنفسه محاصراً، وأنتم تخوضون معركة خاسرة".
في سايغون، جنوب فيتنام، في العام 1963، أحرق الراهب البوذي كوان دوك نفسه احتجاجاً على حكومة دينج ديم المتواطئ مع الولايات المتحدة. لم يكن حدث الإحراق الأمر الذي حيّر الأميركي آنذاك، ولكن سكونه وثباته أثناءه شلّ حركته أمام سطوة السؤال:
من نواجه نحن؟
خاض الأميركي تلك الحرب وخسرها وغادر، وربما ما زال يتأمّل في صورة كوان دوك التي التقطها مالكوم براون من دون أن يدرك المعنى!