في انتظار مشروع حزب الله الاقتصادي

ما تراه واشنطن وتحسب له حساباً هو حزب الله لا لبنان، وهي تتعامل مع هذا البلد في سياق نظرتها إلى حزب الله، ولو لم يكن الحزب موجوداً، لما كان لبنان مدرجاً في حسابات واشنطن.

  • يكمن السؤال الرئيسي هنا، كيف يردّ حزب الله؟
    يكمن السؤال الرئيسي هنا، كيف يردّ حزب الله؟

كان "حوار العام" على قناة الميادين زاخراً بالتفاصيل السياسية والعسكرية والاستخباراتية لما تعيشه بلدان المنطقة منذ نحو عشر سنوات، وليس منذ عامٍ فقط. لكنْ كلّما وصل الحوار إلى ملف لبنان، ينقبض الحديث وتنكفئ التفاصيل وتضيق المساحة، فحجم الموضوع تحدّده حدّة الصراع. هذا البلد لم تعد تتصارع فيه الدول الكبرى أو حتى الإقليمية أو الصغرى، فمن الناحية العمليّة، لا يوجد مضيقٌ ذهبيٌّ يزنّر بيروت، ولا جونية هي كركوك، ولا عكار بمنزلة حلب، ولا طرابلس لبنان هي طرابلس الغرب. 

 

ها هي دول العالم تتصارع على موطئ قدمٍ في ليبيا، فيما أحدٌ من هذه الدول نفسها لا يكترث بالعروض اللبنانية لملء الفراغات. يذهب بعض السياسيين اللبنانيين عبثاً إلى أنقرة لإقناعها بالاستثمار في السياسة اللبنانية؛ فتكون الإجابة بأن التركيّ مهتمٌّ بسوريا وليبيا والعراق والبلقان وغير مهتمٍّ بأي استثمارٍ سياسيٍّ لبنانيّ كبير؛ وما أن بدأ الطرف التركي يتقدّم خطوةً تجاه لبنان، بُعيد تفجير المرفأ، حتى تراجع خطوتين إلى الوراء، وكأنّه تنبّه للمستنقع الذي قد يغرق فيه. 

ويتكرّر الحال نفسه بالنسبة إلى فرنسا التي لم تجد في لبنان ما يستحق الاستثمار فيه غير وقفةٍ رمزية عند السيدة فيروز. إنّ لبنان بكلّ بساطةٍ، غير موجودٍ بالنسبة لأوروبا إلاّ في صلوات الكرسي الرسولي. خلال السنوات القليلة الماضية كانت دوائر الاتحاد الأوروبي تقارن بين معدّلات النمو في هذا البلد وحجم استيراد السيارات الجديدة من أوروبا، لتخلُصَ إلى التأكيد بأنّ لبنان بلدٌ غير طبيعيّ.

 

على الصعيد الاقتصادي والثقافي والسياسي، نحن غير مرئيّين بالنسبة إلى أوروبا وتركيا من جهة، وكذلك بالنسبة إلى الصين وروسيا من جهةٍ أخرى. فمنذ وصول الرئيس ميشال عون إلى بعبدا، تتصرّف الدبلوماسية الروسية على اعتبار أنّها لا تفهم العربية حين يسأل الرئيس عما يحول دون استحداث مصرفٍ تجاريٍّ جديدٍ في لبنان، يسمح بضخ ثلاثة أو أربعة مليارات في خزائن المصرف المركزي. 

يمكن لأيّ عاقلٍ أن يقارن بين ما أنفقته موسكو لبسط نفوذها على الخارطة السورية، وما هي مستعدةٌ لإنفاقه في لبنان: صفر، لا شيء، ولا حتى روبل واحد. 

من ناحيتها، تقول الصين إنّ استثماراتها في لبنان رهن انتهاء العمل الذي لم يبدأ على إنشاء سكة الحديد التي تربط سوريا بالعراق، وهي ستقرّر لاحقاً ما إذا كان التصدير من مرافئ سوريا يكفيها أو أنّها ستحتاج إلى مرفأ لبنانيٍّ أيضاً. بالمحصلة، نحن بالنسبة للصين مجرد مشروع مرفأٍ محتمل، لا أكثر.

 

إنّ بعض الحروب والصراعات على النفوذ تُخاض لأهدافٍ اقتصادية، والبعض الآخر لأسبابٍ سياسية. أمّا لبنان، فهو في عداد الغائب بالنسبة إلى الدول السابق ذكرها، أضف إليها الولايات المتحدة. 

ما تراه واشنطن وتحسب له حساباً هو حزب الله لا لبنان، وهي تتعامل مع هذا البلد في سياق نظرتها إلى حزب الله، ولو لم يكن الحزب موجوداً، لما كان لبنان مدرجاً في حسابات واشنطن. 

ما على المشككين بما سبق، ممّن يؤمنون بالاهتمام الأميركي بلبنان، سوى السباحة نحو سفن "دين براون" التي لم تأتِ حين دُكّت المناطق المسيحية بآلاف القذائف، ولم تظهر حين انسحبت القوات الإسرائيلية من الجبل معرّضةً المسيحيين - عن سابق تصوّرٍ وتصميم - للمذابح والتهجير. 

كلّ ما يعني الأميركي هو محاولة الحدّ من نفوذ حزب الله، لما يشكّله من خطرٍ على "إسرائيل". كان الأميركي يعتقد عام 2005 أنه سيتمكّن من وصل أوتوستراد الجنوب بالأراضي الفلسطينية المحتلة، على أنقاض حزب الله. لكنّه خسر جميع معاركه السياسية والأمنية والعسكرية، وقرّر الاستعاضة عن البرّ، باستخدام البحر والجو، لإيصال السوّاح إلى تل أبيب. وهكذا، خرج بالمعادلة التي نعيشها اليوم: لبنان غير الأميركيّ الهوى، المعاكس لرغبات وليّ العهد السعودي ونزواته، المؤيّد لحزب الله، يعني لبنان المدمَّر إقتصادياً.

 

تجدر الإشارة إلى أنّ المعادلة الأميركية في ما خصّ لبنان وحزب الله، تكاد تكون هي نفسها أيضاً المعادلة الإيرانية، حيث يمكن استخدام العبارات نفسها: ما تراه إيران وتحسب له حساباً هو حزب الله لا لبنان، فهي تتعامل مع لبنان في سياق نظرتها إلى حزب الله. وعليه، يجدر باللبنانيين أن يفخروا بـ"مراقد عنزاتهم"، إذ لا الصيني ولا الأوروبي ولا التركي ولا الإيراني ولا الأميركي ولا السوري ولا الخليجي مهتمّون بالبلد؛ وفي حال وجود ثمة طاولة مفاوضاتٍ إقليميةٍ أو دولية، لن يكون لبنان العظيم موجوداً، لأنّه ما من أحدٍ مستعدٌّ للتنازل عن بعض نفوذه في أيّ مكانٍ آخر في العالم، ليزيد نفوذه في لبنان. 

ثمة أمرٍ واقعٍ لبنانيٍّ يسلّم به جميع الأفرقاء الإقليميين والدوليين، وهو ما اختصره الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله في "حوار العام"، مشيراً إلى أن مشاكلنا وحلولها داخليةٌ صرف؛ فنحن غير مرئيين بالنسبة للخارج وأمورنا لا تعنيهم لا من قريب ولا من بعيد.

 

إنطلاقاً من هذه النقطة بالتحديد، يُفترض مقاربة مشاكلنا الطارئة؛ لقد انتصر فريقٌ لبنانيٌّ على آخر كما لم يحصل منذ الاستقلال، ورفع سعد الحريري، بوصفه رأس حربة الفريق الخاسر، جميع أشكال الرايات البيضاء وأنواعها، فيما تَحوّلَ العقل المدبّر لذلك الفريق الخاسر إلى زعيمٍ افتراضيٍّ يتسلى بالتغريد. خسر طرفٌ وربح آخر، فقرّر رعاة الفريق الخاسر أن ينكفئوا سياسياً من جهة، ويتفرّجوا على الرابح، يتخبّط بأزمة البلد الاقتصادية من جهةٍ أخرى. إنّ الانهيار ليس نتيجة فسادٍ وسوء إدارةٍ فحسب؛ فهذان العنصران كانا دائماً حاضريْن، لكنّ ثمة قرارٍ سياسيٍّ دوليٍّ بمنح حاكم مصرف لبنان رياض سلامة أوسمة التقدير وفعل كلّ ما يلزم لمنع الانهيار. بقي الفساد وسوء الإدارة، لكن الموقف السياسي الدولي تغيّر نتيجة الموقف السياسي الداخلي.

 

يكمن السؤال الرئيسي هنا، كيف يردّ حزب الله؟ إذ لا يُعقل أن تقول الولايات المتحدة إنّ الانهيار الاقتصادي هو نتيجة موقفنا السياسي، فيردّ الحزب، فليكن الانهيار إذن. 

من يقول إنّ إسقاط المعادلات الأمنية والعسكرية والسياسية وحتى الثقافية والإعلامية ممكنٌ، فيما إسقاط المعادلات الاقتصادية مستحيل؟ 

لا شكّ في هذا السياق، أنّ السياسة ليست موقفاً سياسياً فحسب، إنما هي أيضاً توجّهاتٌ اقتصادية وحكمٌ وإدارة. ومن انتصر في السياسة، معنيٌّ مباشرةً بهذه العناصر جمعاء، مهما كان حجم الصّعاب الإقليمية الملقاة على عاتقه. وإذا كان حزب الله يتحدّث عن الشرق باعتباره البديل الوحيد، فإنه من الضروري مصارحة الناس بماهيّة هذا المشروع الاقتصادي الذي يحمل عنوان الشرق، أي أين يبدأ وأين ينتهي، وما هي تفاصيله، بعيداً طبعاً عن صناديق الإعاشة وحاويات الزجاج والألمنيوم وناقلات النفط. 

هذه جميعها تبرعاتٌ تُشكر الدول الصديقة عليها، لكنّها ليست مشروعاً اقتصادياً ولا مكانةً لهذا البلد. إنّ الوظيفة السياسية للبنان واضحةٌ اليوم؛ لكن ماذا عن الوظيفة الاقتصادية؟ هذا ما يتأخّر حزب الله في توضيحه. 

إنّ الحزب الذي تهون عليه أصعب الأزمات العسكرية والأمنية والسياسية، يصعب عليه حلّ أزمة ثقةٍ بين جبران باسيل وسعد الحريري، لتشكيل حكومةٍ تكرّس انتصاره السياسي؟

إنّ الحزب الذي يقود أعتى المعارك لإخراج العراق من دائرة النفوذ الأميركي الداعشي، يصعب عليه نقل هذا الاقتصاد اللبناني الصغير، المتعثّر والمنهار من الخيارات الغربية البائسة إلى خياراتٍ أخرى!

الحزب الذي يحارب لقلب كل التوازنات اليمنية السعودية ويسجّل نجاحاً باهراً، تراه يقتنع هنا؛ ويقتنع حين يخبره رئيس الحكومة حسان دياب أن الانفتاح على سوريا والعراق وإيران وروسيا والصين والتعاون معهم دونه صعوبات!

في "حوار العام"، يقول السيد إنه يستلطف وصف القيادة السورية بـ"النظام"، لما تمثّل هذه الكلمة من معانٍ نقيضةٍ للفوضى؛ لكن ماذا عن تلك الفوضى الزاحفة نحونا؟ 

لا يمكن لحزب الله القول إنها مسألةٌ يتّفق عليها الأفرقاء السياسيون، فهو من أسقط ذلك المشروع السياسي الاقتصادي، وليس الأفرقاء، وهو المعنيّ الأول والأخير بتحديد ماهيّة البديل؛ الشرق عنوان المشروع؛ ولكن ما هي تفاصيله؟

من البديهي أنّ روّاد المشروع الساقط غيرُ معنيّين بتأمين طرحٍ بديل؛ فحزب الله هو المعنيّ الأوحد. الحزب أولاً، ثمّ الآخرين، لأنّه في المعركة السياسية، كان رائداً، يأتي من بعده البقيّة. 

حلفاء الحزب مختلفون بشأن الكهرباء؛ ولكن أو ليس لدى هذا الأخير خطّة وخارطة طريق من أجل تأمينها؟ حلفاء الحزب مختلفون بشأن رياض سلامة؛ ألم يكن لديه تصوّرٌ لاستعادة الأموال المنهوبة والمهرّبة؟ اختلف حلفاء الحزب بشأن الطلب من الصين التكرّم علينا، كما تفعل مع الكثير من البلدان، بنصف مليون سائحٍ سنوياً؛ ألم يمتلك الحزب خطّةً لمصارحة الصين بهذا الشأن؟ تتباين وجهات النّظر بين حلفاء الحزب بشأن الموافقة على العرض الإيراني لبيعنا النفط بالعملة اللبنانية؛ ألم يكن لدى الحزب مشروعٌ لمفاوضة الإيرانيين بهذا الشأن؟ ومن ثمّ اختلفوا بشأن التوجّه إلى دمشق للشروع في محادثاتٍ جديّةٍ هي الأولى من نوعها لتأمين عودةٍ آمنةٍ وسريعةٍ لأكبر عددٍ ممكنٍ من النازحين؛ ألم يُجهَّز الحزب خارطة طريقٍ في هذا الملف؟

من الناحية العمليّة، لا يمكن تخيّل الحزب يحارب في السياسة والأمن والعسكر والإعلام بكل هذه الشراسة، ويشهد فصول انهيار الاقتصاد دون أن يتحرّك. لا يمكن تخيّله أبداً يسلّم بكل بساطةٍ بالقدر الاقتصادي كما تحدّده واشنطن، أو يتحصّن غذائياً لسنواتٍ مديدة في انتظار أن تغيّر الولايات المتحدة سياساتها. كان الحزب رأس حربةٍ في قيادة التحوّل السياسي الجذري، ولا بدّ أن يكون هو نفسه الرائد في قيادة تغيير الواقع الاقتصادي.