بين ترامب وبايدن.. الانكفاء الأميركي مستمر
المشهد العام باعتراف إيمانويل ماكرون هو نهاية للهيمنة الغربية، وأياً كانت الإدارة الأميركية، فإن المسار العام هو نحو الإنكفاء والإعتراف بنظام دولي جديد.
خرجت الولايات المتحدة من الحرب العالمية الثانية وهي معافاة وبكامل قدرتها، وبشكل أكثر مما كانت تحلم به بعد الحرب التي وفرت لها الخروج من الكساد الكبير الذي ألمَّ بها، على العكس من بقية القوى التي خرجت منها مثخنة بالجراح والأعباء نتيجة الدمار سواءً انتصرت أم انهزمت، فأُتيحت لها فرصة التحكم بمسارات الإقتصاد العالمي بدءاً من فرض الدولار كعملة للتبادل التجاري الدولي، وفك ارتباطه بالذهب وربطه بالنفط، ما ولّد ظاهرة البترودولار لأول مرة في تاريخ الإقتصاد العالمي وجعلها أرض الأحلام، خاصةً بعد أن حققت ناتجاً محلياً يُقدّر بـ40 في المئة من الناتج العالمي منذ عام 1960 لمجموع سكاني يشكل 5 في المئة فقط من سكان العالم.
سيطر غرور القوة على الأميركيين بعد انهيار الإتحاد السوفياتي وباتت هيمنتهم على المسار الدولي كقطب وحيد لا قدرة لأية قوة على منافسته، ممّا ذهب بهم بعيداً للتوهم بنهاية التاريخ عند النموذج الليبرالي كنمط وحيد من أجل بقاء الدول واستمرارها، وأطلقوا نظام العولمة الذي ألغى حدود التبادلات التجارية بين الدول الموقّعة على اتفاقية التجارة الدولية، فأدى ذلك إلى انتقال الصناعات الكبرى والمتوسطة إلى الدول النامية، خاصة دول جنوب شرق آسيا والصين بحثاً عن هامش الربح الأكبر، مما تسبّب بحصول فجوة كبيرة داخل المجتمع الأميركي بين قلة نادرة تحوز على الثروات الهائلة وبين شرائح أميركية واسعة بدأت بفقدان مزايا الحلم الأميركي الذي انخفض فيه الناتج المحلي الأميركي إلى 20 % من الناتج العالمي، وبدأت المؤشرات الأميركية تتصاعد في ظلّ التهديدات المحيطة بها والتي أدّت إلى تراجعها للمركز الثاني عالمياً، بالإضافة إلى مظاهر الإنقسامات الداخلية في مجتمع شديد التنوع والتعقيد، ما أدى إلى نشوء ظاهرة دونالد ترامب الذي فاجأ الجميع بفوزه بالرئاسة الأميركية في انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني 2016، واستلامه السلطة في مطلع عام 2017.
مضت أربع سنوات على تجربة ترامب التي اعتمدت على دعم تيارات المتضررين من سياسات العولمة التي سبقته، وهو لم يكن سوى رأس جبل الجليد للأنجلوساكسون والكنائس البروتستانتية والعنصريين البيض الذين كانوا يتلمسون التدهور الأميركي المستمر.
وبالرغم من عدم قدرته على تحقيق ما وعد به بالانتقال من نظام العولمة إلى شعار "أميركا أولاً"، إلا أنه استطاع استقطاب الشرائح الأميركية التي تسعى لانعزال الولايات المتحدة، وحقق إنجازاً اقتصادياً كبيراً بتقليص حجم البطالة لأدنى مستوى في تاريخ الولايات المتحدة، ثم أوفى بأغلب العهود التي قطعها على نفسه في حملته الانتخابية الأولى، رغم معاندة دولة الأمن القومي العميقة التي استطاعت أن تكبحه في السياسات الخارجية، خاصة في ما يتعلق بسحب القوات الأميركية المنتشرة في أكثر من 800 قاعدة عسكرية في العالم، ما أدى إلى خلخلة علاقة واشنطن مع العواصم الأقرب إليها وخاصةً دول الإتحاد الأوروبي.
ومن جهة أخرى، دفعت سياساته الصارخة والحادة تجاه الصين وإيران وعدم قدرته على الإيفاء بوعوده تجاه موسكو إلى احتدام الصراع الدولي، مما دفع بكين وطهران وموسكو إلى اتخاذ خطوات متقدمة باتجاه تعزيز مواقعها الإقليمية والدولية، مستثمرةً الإرباك الكبير بين العواصم الغربية، وإدراكها بأن 200 عاماً من الهيمنة الغربية على المسارات الدولية بأشكالها الإقتصادية والسياسية والعسكرية آيلة إلى إلى أفول، وأن الدور القادم هو للصين.
وقد عبّر الرئيس الفرنسي ماكرون عن ذلك بكل صراحة ووضوح في مؤتمر السفراء الفرنسيين في مدينة بياريتز بعد قمة الدول السبع G7 في 27 آب/أغسطس 2019، ولَم يتوقف الارتباك في العلاقة مع باريس ولندن وبون عند هذا الحدّ، بل انتقل إلى الداخل الأميركي وظهر انقسام واضح وصل إلى حد التهديد باستخدام السلاح ـ الذي انتشر بشكل خاص ومكثف بأيدي الميليشيات العنصرية البيضاء الأنجلوساكسونيةـ وهي ظاهرة ليست غريبة على المجتمع الأميركي الذي لطالما عبَّر عن هذه الظواهر بشكل عمليات تدميرية كبرى بحماية القانون الذي يبيح بيع السلاح للمواطنين الأميركيين، مما قد يؤدي إلى اندلاع مواجهات عنفية في حال عدم فوز مرشحها دونالد ترامب.
كان تفشي وباء كوفيد-19 في نيويورك في آذار/مارس من العام الحالي بمثابة فرصة كبيرة أُتيحت لدولة الأمن القومي العميقة لكي تعيد ترتيب أوراقها الإنتخابية، بعد أن فشل ترامب وإدارته في التجاوب مع تهديدات انتشار الفيروس، فظهر عجز النظام الصحي الأميركي على احتواء الوباء، بل تفاقم الوضع لتصبح نسبة الوفيات هي الأعلى في العالم بمعدل 6.5% على عكس الصين التي لم تتجاوز نسبتها عتبة 0.33%، وانعكس ذلك على الجانب الإقتصادي لِيلْتهم منجزاته في السنوات الأربع من ولايته، وليزداد عدد العاطلين عن العمل إلى أكثر من 42 مليوناً، فتجاوزت نسبتهم الـ15%، مما أدى إلى تراجع حظوظ ترامب الإنتخابية وارتفاع حظوظ منافسه الديموقراطي جو بايدن.
بغض النظر عن نتائج الإنتخابات، فإن كلا الخيارين بالنسبة للولايات المتحدة يُعتبر مراً، ففوز ترامب يعني أنه تحرّر من عقدة إعادة الانتخاب لولاية ثانية، وذهابه بعيداً بتنفيذ سياساته التي اعتمدها بعد نجاحه السابق، ما يعني مزيداً من الضغوط الخارجية على العواصم الغربية الكبرى التي تدور في فلك واشنطن، فيدفعها للاقتراب من موسكو لفك تحالفها مع بكين التي سترفع من وتيرة التحدي والتهديدات العسكرية والإقتصادية الأميركية والغربية على حد سواء، وإظهار الجانب العسكري مع زيادة ارتباطها بطهران وموسكو.
وبالتالي، انقلب المشهد الجيوسياسي في كل قارة آسيا، وقد لا يبقى الأمر خارجياً، بل سيمتدّ على مستوى الداخل الأميركي الذي كان يعيش وهم الإستقرار كقارة منعزلة بمحيطين بحريين "الأطلسي والهادي". بالمحصلة، ستزيد عمق الفجوة الداخلية بين الولايات الغنية والولايات الضعيفة إقتصادياً، ما يهدّد بميول بعض الولايات للإستقلال، إضافة إلى الإنقسام المجتمعي المتعدد الأعراق، خاصة بعد صعود اليمين الشعبوي العنصري الذي يمثله ترامب، مما قد يسرّع بدوره بتفكيك البنى الإجتماعية الأميركية.
لن يختلف الوضع كثيراً إذا ما نجح جو بايدن بالإنتخابات الرئاسية وخاصةً ـ في المرحلة التي تلي إعلان فوزه ـ فقد يثير ذلك غضب التيار الشعبوي العنصري الصلب، ويدفعه لعدم الإعتراف بنتائج الإنتخابات، وبالتالي الذهاب نحو مسارين:
الأول قانوني عبر الدخول بمماحكات صحة الإنتخابات وإعادة الفرز. والثاني هو إظهار عدم القبول بها عسكرياً من خلال التظاهرات العسكرية للميليشيات المسلحة، ويُرجّح أن يذهب الوضع باتجاه الحرب الأهلية، خاصةً أن معظم مؤيدي بايدن هم من النساء والأقليات الملونة، وذوي الأصول الكاثوليكية اللاتينية اللغة والثقافة.
قد يستطيع بايدن أن يتجاوز هذه المرحلة في حال نجاحه، وهو بالتالي سيعمل على إعادة الثقة مع العواصم الغربية الكبرى أولاً، ومن ثم تخفيف حدة التوتر العالمية خاصةً مع بكين وطهران وموسكو. لكن ذلك سيترافق مع إعادة دفع سياسات العولمة إلى الأمام ومحاولة تخفيف انعكاساتها على الداخل الأميركي.
إن هذا النهج صعب جداً لأن العولمة بنسختها الليبرالية المتوحشة لا تستطيع الإهتمام بالمضمون الإجتماعي للطبقات الدنيا، ما سيزيد أيضاً من حدة التناقضات الأميركية الداخلية وتمركز الثروة بأيدي مجموعة محدودة من الأُسر والأفراد وتراجع المستوى الإقتصادي للطبقة الوسطى، والذي سيتيح مزيداً من الفرص للدول الناهضة في قارة آسيا، خاصة الصين وروسيا وإيران ومعها تركيا إذا استطاعت أن تخرج من المأزق الإردوغاني التوسعي داخلياً وخارجياً.
إن المشهد العام باعتراف الرئيس الفرنسي، هو نهاية للهيمنة الغربية، وأياً كانت الإدارة الأميركية، فإن المسار العام هو نحو الإنكفاء والإعتراف بنظام دولي جديد سيكون قطبه الأول بقيادة بكين ومن معها، وستبقى الولايات المتحدة تصارع خلال السنوات القادمة في موقع الدفاع عن مكانتها بشراسةٍ قلَّ نظيرها، ما سيؤدي إلى المزيد من الدمار والدم في أماكن متعددة في العالم.
ويبقى السؤال الذي يفرض نفسه أين العرب من العالم الذي يتشكل، وما هو دورهم فيه؟ وكيف ستصبح أحوال هذا المشرق؟ وأي دور لسوريا والسوريين فيه؟