عن التحوّل الأبرز في تاريخ الإخوان المسلمين
لما جاء سيّد قطب إلى ساحة الحركة الإسلامية، أحدث تحولاً كبيراً ما كان لحسن البنّا أن يحدثه على الإطلاق، نظراً للتباين القائم بين الشخصيتين، وأسلوب كلّ منهما في الدعوة والكتابة.
استلهم حسن البنّا (1906-1949م) مؤسس جماعة الإخوان المسلمين أفكار الشيخ اللبناني الأصل محمد رشيد رضا السلفية التوجه، إضافة إلى أفكار من سبقه من أصحاب المدرسة الإصلاحية التي برز فيها الشيخ محمد عبده. وبنزعة صوفية، طوّر البنّا أطروحته في استعادة ما اصطلح على تسميته "الخلافة الإسلامية" المندثرة. فحدّد موقف جماعته من الخلاف المثار حول المفاضلة بين "الخلافة الإسلامية" الضائعة وبين الدولة الحديثة الوافدة إلى العالم الإسلامي. فأورد في رسالة المؤتمر الخامس المنشورة ضمن كتاب "مجموعة رسائل الإمام الشهيد" أن "الإخوان يعتقدون أن الخلافة رمز الوحدة الإسلامية ومظهر الإرتباط بين أمم الإسلام، وأنها شعيرة إسلامية يجب على المسلمين التفكير في أمرها والاهتمام بشأنها".
كان واضحاً أن البنّا لن يسلك طريقة شيخه رشيد رضا في التنظير لإقامة خلافة إسلامية طوباوية هلامية بقدر ما أرادها دولة دستورية إسلامية، أي ذات دستور مقنّن ومنبثق مباشرة من أحكام الشريعة الإسلامية التي استقرّ على تدوينها والعمل بها أهل المذاهب الإسلامية لقرون خلت، مع تعديل عصري يتناسب والدولة الحديثة من حيث وجود مجلس نيابي منتخب تنحصر مهامه في إقرار القوانين والتأكد من تنفيذها وفقاً لأحكام الشريعة.
راهنت نظرية البنّا في اعتبار "الدولة القطرية" التي تأسست على دستور إسلامي، ستُفضي حتماً إلى الوحدة الإسلامية الشاملة حيث تنصهر إلى جانب أخواتها من الدول القطرية في بوتقة واحدة يمكن أن يُطلق عليها "الخلافة المنشودة".
لم تكن الرؤية متبلورة بشكل كامل -على ما يبدو- في ذهن البنّا الذي مقت الأحزاب السياسية على اختلاف أنواعها وتنوّع أطروحاتها، ورفض قبولها في الدولة الدستورية التي يسعى لها حيث بدا واضحاً أن البنّا يلتمس في وجود الأحزاب داخل المجتمع المسلم باباً إلى الشقاق والتناحر وميل عن جادة الإسلام وأهدافه العليا.
ورغم الاعتلال الواضح في نظرية البنّا التي تنتزع من الدولة القطرية أبرز الأسس التي تقوم عليها، إلا أنها مضت نحو الخطوات العملية في نقل نظريته من حيّز التنظير إلى حيّز الوجود المادي. فقد رسم البنّا في "رسالة إلى الشباب" طريقاً، حسبه عملياً، لاستعادة الخلافة عبر خمس مراحل، تبدأ بتكوين الفرد المسلم ثم البيت المسلم ثم الشعب المسلم فالحكومة المسلمة ثم الخلافة الإسلامية الكبرى التي تجمع ما مزقه الإستعمار حسبما يرى.
جاءت دعوة حسن البنّا مثقلةً بهمّ استعادة الحكم الإسلامي المتصوَّر لديه، فيقول عن جماعته- أي أولئك الذين قبلوا دعوتهم وعملوا لها-: "لا يطلبون الحكم لأنفسهم فإن وجدوا من الأمة من يستعد لحمل العبء وأداء هذه الأمانة والحكم بمنهاج إسلامي قرآني، فَهُم جنوده وأنصاره وأعوانه، وإن لم يجدوا فالحكم من منهاجهم وسيعملون لاستخلاصه من أيدي كل حكومة لا تنفذ أوامر الله ". وهكذا أكمل أتباع حسن البنّا البحث عن الصلة بين إقامة الدولة وتطبيق الشريعة، مؤكدين على عدم صلاحية "الفكرة العلمانيّة" للمجتمع والدولة.
لما جاء سيّد قطب إلى ساحة الحركة الإسلامية، أحدث تحولاً كبيراً ما كان لحسن البنّا أن يحدثه على الإطلاق، نظراً للتباين القائم بين الشخصيتين، وأسلوب كلّ منهما في الدعوة والكتابة.
ففي الخمسينات والستينات من القرن العشرين، وعلى وقع التوتر والصدام بين الإسلاميين والقوميين، تزايد في الواقع الإسلامي الإنتقال التدريجي للمرجعية من الخلافة إلى الشريعة بحيث أضحت الأخيرة أيديولوجيا تطلب معها القول بفكرة النظام الكامل والشامل على حدّ وصف رضوان السيّد في بحثه المنشور على الإنترنت "أزمة الفكر السياسي الإسلامي".
في هذه المرحلة من التاريخ، وبحسب المفكر الإسلامي محمد عمارة في كتابه "الطريق إلى اليقظة الإسلامية" برز اتجاه يمثل رفضاً مطلقاً للتوجهات السياسية، ويدعو إلى قطيعة معرفية كلية مع الغرب والحاضر. فهو التيار "الذي حكم بكفر الواقع.. والتراث.. والمجتمع والأمة.. ومن ثم رفض ويرفض العمل من خلال القنوات والمؤسسات التي أقامتها الأمة.. فجميعها – بنظره - أدوات للجاهلية، قامت لتدعيم الجاهلية المهيمنة على هذه المجتمعات.. ولذلك كان النهج الإنقلابي الذي سلكه ويسلكه هذا الفصيل من فصائل اليقظة الإسلامية".
كان الملهم الأول لهذه الأفكار هو سيّد قطب (1906-1966) الذي بدأ بالتنظير عن النظام الإسلامي الشامل منذ أواسط الخمسينات في كتبه، حيث قسّم المجتمعات تقسيماً ثنائياً، مجتمع إسلامي وآخر جاهلي.
والإسلام في كتاب سيّد قطب "معالم في الطريق" لا يعرف إلا نوعين اثنين من المجتمعات: مجتمع إسلامي ومجتمع جاهلي. "والمجتمع الإسلامي: هو الذي يُطبَّق فيه الإسلام عقيدةً وعبادةً، شريعةً ونظاماً، وخُلُقاً وسلوكا. والمجتمع الجاهلي: هو المجتمع الذي لا يُطبَّق فيه الإسلام، ولا تحكمه تصوراته وقيمه وموازينه، ونظامه وشرائعه، وخلقه وسلوكه".
ومع هذه الثنائيات الحادة، من قبيل "المجتمع الجاهلي" و"المجتمع المسلم" تمكن سيّد قطب من بناء أطروحة تقوم على الدمج بين الديني والسياسي وصولاً للقول بدولة دينية لا تستمد شرعيتها من المجتمع والأمة، بل من الدين فقط.
تنبأت أطروحة قطب بسقوط الدولة القومية الحديثة، لأن النظام الغربي "المادي الوثني" –على حد وصفه- لم يعد يملك رصيداً من "القيم" يسمح له بالقيادة. وهذا الفراغ الناتج من زوال الحضارة الغربية يتطلب من المسلمين ملأه عبر "انبعاث إسلامي" جديد يتهيأ لقيادة العالم بما يحمله المسلمون من عقيدة وقيم تتعطش لها الحضارة الغربية المادية. ولتبدأ عملية البعث الإسلامي، لابد من طليعة تزاول نوعاً من العزلة من جانب، ونوعاً من الإتصال بالجاهلية المحيطة من جانب آخر، إلى أن تتحقق "الحاكمية" ويطبّق شرع الله.
أدّت نظرية "الحاكمية" التي أتى بها سيّد قطب، متأثراً بأفكار المودودي إلى الإفتراق بين الشريعة والجماعة أو بين الدين والأمة. فقد صارت تلك الأيديولوجيا التي تحددها النخبة هي المعيار لإيمان الجماعة أو انعدامه.
وهكذا ألهمت أفكار سيّد قطب "التيار الجهادي"، إذ تحوّلت إقامة الدولة الإسلامية إلى المخلّص الوحيد المتبقي للمسلمين للتخفيف من آلامهم وضياعهم وحيرتهم. ومع هذا التيار، برز تيار العنف السياسي ومفاهيم "العدو القريب" و"العدو البعيد" على يد رموزه أمثال: صالح سرية، ومحمد عبد السلام فرج وشكري مصطفى الذين تأثروا بكتابات ابن تيمية والمودودي وسيّد قطب.