منطلقات عميقة في سياسات تركيا الحديثة
لا تنظر تركيا إلى نفسها في عهد إردوغان على أنها مجرد دولة قومية للأتراك بل هي أمة تضم بين جنباتها كلّ ما يحمل مفاهيم التسامح والإخاء والاعتدال ونصرة المظلوم.
الجاهد لفهم السياسة التركية الحديثة في زمن حزب العدالة والتنمية يحتاج لمعرفة المنابع الأساسية التي قولبت المنطلقات الأساسية لجميع الحكومات المتعاقبة المنتمية للتيارات الإسلامية الحديثة في تركيا وخاصة في عهد الرئيس إردوغان. لا شك أن الأخير ترك بصمات كبيرة على آليات العمل السياسي في تركيا، وفي علاقاتها مع الخارج، إلا أنني أجد نفسي منقاداً للقول إن أبرز منظّريْن لرسم السياسات التركية، خاصة من حيث مكانتها الجيوسياسية في التعامل مع الغرب السياسي هما نجم الدين أربكان واضع الأسس الحديثة للحركة الإسلامية على اختلاف مشاربها ثم أحمد داوود أوغلو الذي مكنه عمله الطويل في مجال التدريس والكتابة في صقل النظرية الفكرية لتركيا الحديثة وتدعميها، ومن ثم ترجمتها إلى فعل سياسي خلال فترة انخراطه في المجال العام من وزير للخارجية إلى رئيس للحكومة قبل أن ينقلب على رفيق دربه مؤسساً حزباً جديداً.
لا أجد خلافاً عميقاً بين الرجلين على الرغم من خلافاتهما السياسية المستجدة. ففي ثنايا توجهات تركيا الحديثة تكمن أبرز التوجهات التي صاغتها نظرية داوود أوغلو. فالرجل الذي اجترح مصطلح "صفر مشاكل" ونظّر له في كتابه الضخم "العمق الاستراتيجي" كان يرسم الصورة التي ينبغي أن تحتلها تركيا في وجدان أهلها وفي مكانتها في العالم من ناحية أخرى والتي يجهد إردوغان في تكريسها مع بعض التعديلات التي تتناسب وحساباته الحزبية.
وإذا كان داوود أوغلو معروفاً بكتابه "العمق الاستراتيجي" فإن كتباً أخرى له قد تكون أكثر تأثيراً في رسم السياسات التركية الحديثة مثل كتاب "الفلسفة الإسلامية الحديثة" وهو من الكتب النادرة لداوود أوغلو التي تترك أثرها الجلي في سياسات الرئيس إردوغان في تعامله مع الدول الغربية.
ففي معرض استعراضه للعلاقة الشائكة تاريخياً بين تركيا زمن السلطة العثمانية وبين الغرب المسيحي، يرى داوود أوغلو أن الخلاف في مقاربة العمل السياسي بين الغرب وتركيا (التي تُجسّد من وجهة نظر "إسلاميي تركيا" رسالة الإسلام في تعاطيه مع العالم) ينطلق من التباين في النظرية السياسية في الحكم. فهي من وجهة نظر داوود أوغلو معطى إلهي مفارقٌ للتجربة البشرية يقوم من خلالها الحاكم المسلم بترجمة رسالة الإسلام ومبادئها إلى واقع ملموس في سياساته، في حين النظرية المعرفية الغربية التي تنطلق منها السياسات الغربية مليئة بالشوائب والدمال.
والفارق الأساسي بين النظرة الإسلامية إلى العالم والنظرة الغربية في نظر داوود أوغلو يكمن في التناقض بين "نظرية المعرفة الإسلامية المحددة وجودياً من قبيل خالق مفارق للكون" و"الوجود المحدد بنظرية المعرفة الغربية التي لا تعترف إلا بالعلم الوجودي الإلحادي.
ويرصد أوغلو خمسة آثار لهذا التناقض في الرؤية المعرفية بين المدرستين، سنكتفي ببعض منها مع أمثلة حيّة لتطبيقاتها في سياسات الرئيس إردوغان.
مبرر وجود النظام السياسي. في الفلسفة الغربية اتجاهان، بحسب داوود أوغلو: اتجاه يحاول فهم "أصل الدولة " وينطلق منه، واتجاه يحاول تحديد "هدف الدولة " ليصل إليه بينما يقوم النظام السياسي الإسلامي على القيام بالأمانة التي عهد الله بها للإنسان. لذا لا يمكن الفصل بين الدين والدنيا، ولا بين الأخلاق والسياسة. وإذا ما دققنا بأغلب تصريحات ومواقف الرئيس إردوغان نلمس تكثيفاً واضحاً وتضميناً لأبعاد الدين، وإضفاء بعدٍ أخلاقي وقيمي على ما يتخذه من قرارات ومواقف ولو كانت تحمل عملاً عسكرياً كما هو حاصل في التدخل التركي في ليبيا إذ تلبي تركيا- من وجهة نظر إردوغان - واجب النصرة لإخوان لها في الدين والإنسانية ناشدوها التدخل لحمايتهم من خطر تمثله جهات خارجية تتآمر على ليبيا بمواردها وخياراتها السياسية.
الثنائية والتعددية في هيكل النظام الدولي إذ تتبنى الفلسفات الغربية مفهوم "الدولة القومية" التي تتحدد فيها الهوية لكل فرد من خلال الأصل العرقي أو مكان الميلاد في تناقض واضح مع المفهوم الإسلامي الذي يجعل الهوية شيئاً مكتسباً، يمكن أن يتم بمجرد دخول الفرد طوعاً في الإسلام. ولهذا تعتبر منظمة الأمم المتحدة وما ينبثق عنها من منظمات، محفلاً غير عادلٍ وغير منصفٍ، يفتقد إلى التنوع والاعتدال في التعاطي مع السياسات الدولية. وانطلاقاً من هذا الجوهر لا تنظر تركيا إلى نفسها في عهد إردوغان على أنها مجرد دولة قومية للأتراك بل هي أمة تضم بين جنباتها كلّ ما يحمل مفاهيم التسامح والإخاء والاعتدال ونصرة المظلوم. ولهذا تجد في أدبيات حزب العدالة والتنمية وترجمة سياساته الخارجية كما هو الحال في دعم الأذريين في أذربيجان أبعاداً مثل "الأمة الواحدة"، "القضية المصيرية"، "القدر المحتوم في النضال بين الخير والشر".